يواجه المهاجرون المنتمون للجاليات المسلمة بفرنسا أوضاعاً صعبة، وسط توترات مشحونة بالكراهية والعدائية، كشر فيها اليمين الفرنسي عن أنيابه الحادة، مبالغاً في شراسته وضراوته بما أسماها "وقفات بيضاء"، تعاطفاً مع الطفلة لولا التي راحت ضحية جريمة شنعاء ارتكبتها طالبة جزائرية مضطربة نفسياً، مقيمة في باريس بطريقة غير شرعية. كان يمكن لتلك الوقفات أن تكون عادية إزاء حادث مأسوي هز فرنسا والمهاجرين في العمق، غير أن الأوساط الفرنسية المعتدلة والمهاجرين الرافضين لخلط المفاهيم، تأثروا لمقتل الطفلة البريئة بتلك الوحشية، غير أنهم أصيبوا بصدمة كبرى لا تقل خطورة عن سابقتها، عندما أدركوا أنهم صاروا برغبة التلاعب اليميني الأخرق ضحايا قادمين قبل أن توارى الضحية البريئة التراب، أي منذ اللحظة التي كشف فيها على أن القاتلة مهاجرة جزائرية، كما لو أن القصة هو جنسية القاتل وجنسية القتيل.
1/ الفرونكوسيد: عندما يبدع زمور في نشر الكراهية عبر القتل على العرق
لم يتورع زعيم حزب لا روكونكات المثير للجدل إيريك زمور، عن استغلال جريمة مقتل البريئة لولا، 12 سنة، على يد جزائرية مقيمة في فرنسا بطريقة غير شرعية، ليطلق مصطلحاً جديداً مقززاً لقي سخط الطبقة الفرنسية المعتدلة.
ومع أن مرتكبة الجريمة البشعة تحمل في طيات شخصيتها، أعراض أمراض نفسية جراء حياة عائلية جد مضطربة، كما أشارت إلى ذلك جريدة لوباريزيان، ما يرجح أن لتلك المرأة المجرمة خصائص القتلة غير الأسوياء، إذ إنها تنحدر من محيط عائلي هش، كما عانت كضحية من تبعات العنف الزوجي قبل عدة أعوام.
لم يتخل إيريك زمور عن عهده القديم المزدحم بأفكار تفوح منها لوثة عداء الأجانب والمهاجرين، عندما وصف الجريمة بأنها " فرونكوسيد" القريبة من مصطلح " الفيمينسيد" و"الجينوسيد"، ولم يدخر جهداً في الإضافة والتوضيح: "إذا كان الفيمينيسد جريمة تمس النساء كجنس، فإن الفرونكوسيد جريمة تمس الفرنسيين كجنس"، لتقفز الجريمة من الطابع البوليسي الجنائي، ومن مصنفات أخبار الحوادث على الصعيد الإعلامي، إلى جريمة ذات أبعاد ثقافية ودينية وسياسية، ففي نظره "الفرونكوسيد" جريمة يذهب ضحيتها فرنسي على يد أجنبي. تسأله محاورته الصحفية عما إذا كان بالإمكان إطلاق نفس المصطلح إذا كان القاتل فرنسياً والضحية مهاجراً، فيرد: لا، ثم يلح بأن معناه واحد، أن يكون الضحية فرنسياً والقاتل من جنسية أخرى. تستفسر محاورته الفرنسية ذاهلة مما تسمع، موضحة له أن عائلة الضحية طالبت الجميع بعدم استغلال الموضوع، رداً على محاولات الجبهة الوطنية بقيادة جان ماري لوبان وإيريك زمور زعيم لا رونكات عقد تجمعين سياسيين للتنديد بالحادثة وتكريم الضحية، فيشرح لها بشيء من الوقاحة تجاوزت رغبة عائلة الفقيدة "إنها مسألة تتجاوز العائلة، فهي قضية تهم فرنسا برمتها". والأسباب الزمورية هي كما يوغل في تفصيلات العداء للآخرين بقوله: "أعتقد أننا نعيش اليوم حدثاً تاريخياً، هو أن الشعب الفرنسي صار محتلاً في أرضه، من طرف شعب أجنبي، ومن قبل حضارة أجنبية تسعى إلى استبداله. يواجه الشعب الفرنسي خطر الموت، وهذه الطفلة هي الرمز لذلك".
2/ مارين لوبان: أجندة سياسية من بطن حقيبة أشلاء الضحية
بدورها لم تنتظر مارين لوبان ما يمكن أن تسفر عنه نتائج التحقيقات الجنائية بعد توقيف القاتلة، وقبل أن تدفن العائلة فلذة كبدها، حتى كانت تحمل على السياسة الفرنسية المتعلقة بالهجرة، مستعملة عبارة تعاطف مؤثرة: "إن التعاطف الذي تحس به كل عائلة فرنسية، كما لو أن الضحية هي ابنتنا، لعميق جداً"، يعزف على وتر الحساسية العاطفية، وكما هو معروف فإن أحداث موت الأطفال تخلف صدمة أكبر من غيرها لدى قطاعات كبيرة من الشعوب، بغض النظر عن الانتماء السياسي والميول الدينية، على غرار تعاطف العالم مع الطفل السوري إيلان، والمغربي ريان، بما أن العاطفة الإنسانية واحدة لا تتجزأ، مثلما يجتهد في تفسيره علماء النفس عبر نظرية "التعاطف الجواري"، وهو شبيه بالعدوى العاطفية المجتاحة للجميع، خاصة إذا ما تعرض جسد الطفل إلى تدنيس أو تنكيل مثلما وقع للطفلة لولا التي قطعت وجمعت أشلاءها في حقيبة بلاستيكية، وعثر على رموز غريبة ناحية قدميها.
وهذا التعاطف الذي تبحث عنه مارين لوبان مرتبط بإثارة شعور جماعي، من خلال كلمة "يمكن للضحية أن يكون ابنك"، هو أدق تعبير يعكس هذه الحالة، مثلما فسره المحلل النفسي، ينجامين ليبينسكي، لموقع "بور أفام"، مفسراً الاهتمام الكبير بالقضية الجنائية التي ارتقت إلى قضية "رأي عام جماعي". وهذا الاهتمام الجماعي حوله اليمين إلى استثمار لتحشيد أكبر قدر ممكن من التعاطف الشعبي، إذ لم تتأخر مارين في الدفع بمطالبها التقليدية، مثل طرد جميع المهاجرين غير الشرعيين، ومراجعة الاتفاقية الفرنسية الجزائرية المتعلقة بتنقل الأفراد بين البلدين، والتفكير في منح التأشيرات، وربطها بقبول دول الجزائر وتونس والمغرب للمهاجرين غير المرغوب فيهم، وربط عدد التأشيرات الممنوحة لرعايا ومسؤولي تلك الدول بعدد المطرودين بموجب قرارات مغادرة التراب الفرنسي، وتحجيم قبول دخول الطلبة الجزائريين والشمال إفريقيين، وربط بقائهم في التراب الفرنسي بالنتائج المحصلة جامعياً، إذ ينبغي طرد كل طالب لا يتجاوز الاختبارات السداسية، والمبتغى النهائي هو قطع منفذ الدراسة الجامعية الذي يتيح التسجيل السنوي لآلاف الطلبة القادمين من الجنوب، كل ذلك لأن القاتلة المضطربة كانت دخلت التراب الفرنسي بطريقة قانونية عبر التسجيل الجامعي ثم مكثت في باريس بطريقة غير شرعية ودون ملجأ، قبل أن تخضع لقرار مغادرة التراب الفرنسي الذي صدر منذ أغسطس/آب الماضي.
3/ أحفاد الصليبي شارل مارتل يعودون هذا الأسبوع في ليون
جراء ذلك التجييش الذي شنه اليمين المتطرف، وفي مناخ أوروبي بات يشهد صعوده التاريخي والانتخابي مع حضانة قابلة له في السويد والمجر وبولونيا والنمسا وإيطاليا وإسبانيا، عاد مناضلو الحركة الفاشية "جيل الهوية" أو ما يعرف بـ"جينيراسيون إديدونتيتار" المحظورة من قبل السلطات الفرنسية، إلى الظهور مجدداً عبر مسيرة حاشدة في ليون، مرددين عبارات "المهاجرون القتلة"، وهذه الحركة المتطرفة مصنفة في خانة المنظمات الفاشية الفرنسية، التي تعتمد على شعارات القسم: الأب والابن وروح القدس، والولاء للمسيحية البيضاء، ولا يتورع أفرادها في حمل مشاعل وسكاكين وآلات حادة، والاعتداء على الغرب والأفارقة والمسلمين، والاعتقاد بالتفوق على الآخرين، وتحقير معتقداتهم، إذ سبق لهم قبل عامين من تلطيخ جدر مسجد ومركز ثقافي إسلامي في مقاطعة ليل شمال فرنسا، بشعارات تستدعي الحرب المقدسة والحروب الصليبية، بألفاظ مشينة ضد الذات الإلهية والرسول محمد صلى الله عليه وسلم، الذي نُعت بأقبح الصفات، وإشارات تحمل العدد "732"، متبوعة بعبارة شارل مارتل: أنقذنا.
وشارل مارتل هو ملك الفرنجة الذي دارت بينه وبين والي الأندلس عبد الرحمن الغافقي، معركة بلاط الشهداء قرب مدينة بواتي، فانتصرت الجيوش الصليبية على الجيش الأموي الإسلامي، فعُدَّت تلك المعركة سبباً في منع انتقال الحضارة الأندلسية المحصورة في شبه الجزيرة الإيبيرية إسبانيا، وعدم انتقالها شرقاً إلى الأراضي الفرنسية، فعُدَّت مرجعاً تبني عليه هذه الحركة المحظورة -التي تأسست في سبتمبر/أيلول 2012، وحُلت من قبل وزارة الداخلية الفرنسية شهر مارس/آذار 2021- معاداة الإسلام والمهاجرين الغزاة والقتلة، كما هي شعاراتهم التي ترددت بعد الكشف عن هوية قاتلة الطفلة لولا.
4/ كتابات الثأر والانتقام على جدر المساجد في يوم الجمعة
ولم تمضِ غير أيام من النفخ في كير الكراهية حتى ظهرت، صبيحة الجمعة الماضي، 21 أكتوبر/تشرين الأول، كتابات تلطيخية على جدران مسجد في منطقة بيساك في ناحية بوردو، ضربت باللون الأسود، جاء فيها "العدالة للولا"، و"دولة متخاذلة"، و"الانتقام الوطني"، وتلك الكتابات تبنتها توقيعات عن حركة العمل المباشر والهوية.
وتلقي الأوضاع المسمومة بالكراهية والتلوث العنصري بثقلها على المهاجرين جراء خطابات التحريض ضد المهاجرين المسلمين، حيث أكد إمام المسجد رضوان عبد المؤمن بأن "الاستغلال السياسي الدنيء للحادثة البشعة التي ارتكبت في حق الطفلة بلغ هدفه النهائي بأن جعل كل المسلمين مسؤولين عن هذه الجريمة الشنيعة"، معتبراً في السياق ذاته بأن هناك "نية تحويل جميع المسلمين لأهداف مشروعة للتحريض والعنف"، محملاً كل ذلك للاسترجاع والاستعمال السياسي للمأساة لكل من "مارين لوبان وإيريك زمور وأشياعهم".
5/ كل التوابل مطلوبة لتكرار وصفة ميلوني في فرنسا
لم يخفِ اليمين الفرنسي إعجابه بالتجربة الإيطالية، عبر تصدر زعيمة حزب إخوة إيطاليا جورجيا ميلوني، المشهد السياسي العام في إيطاليا، وتكليفها بإنشاء حكومة، إذ يبدو أنها فتحت شهية الكراهية والعنصرية المبنية على خطابات الشعبوية الوطنياتية التي باتت تستقطب المواطن الأوروبي جراء تراكم المشكلات الاقتصادية والمعيشية المستفحلة قبل عامين جراء الانكماش الاقتصادي وكرونا والحرب الروسية الأوكرانية، وهي كلها محفزات ترجح كفة الخطاب الغوغائي المعارض للحكومات المتزنة، ويمهد الطريق لتطور اليمين بشكل عملي وانتخابي، وتماماً كما استعملت ميلوني فيديو اغتصاب مهاجر إفريقي لفتاة أوكرانية عبر حسابها في تويتر، يكرر اليمين الفرنسي المشهد ذاته إزاء المهاجرين استجداءً لتيار عام بات ملحوظاً في أوروبا والغرب عموماً، بات يفر إلى الهوية كملاذ أخير لمجابهة تغيرات جيو استراتيجية واقتصادية، والفرار إلى أسهل معتقد يعلق مشاكله على مشجب الهجرة، والآخر الغريب، دونما إدراك بأن الهجرة ارتبطت بظاهرة سابقة هي الاستعمار واستغلال مقدرات الدول الفقيرة والتواطؤ المصلحي مع أنظمة دول فاشلة صارت تصدر البشر بدل المنتجات الفلاحية والصناعية.
وأما الحكومات الغربية التي تحاول مجابهة خطر تصاعد المد الفاشي بخطابات متزنة لأسباب أمنية متعلقة بتحاشي خلخلة وتفتيت تعدد المجتمعات الأوروبية عرقياً ولغوياً ودينياً وثقافياً، أو لأسباب "غازية" بحتة قد تعصف بالنظام وتشرع الباب أمام ماكينة سياسية وانتخابية تتغذى على جنون أحزاب يمينية تتبنى خطابات "الإسلاموفوبيا" وجنوناً لا يقل ضراوة عن سابقه، من قبيل مصطلح "الفرونكوسيد"، ما يؤسس مشروعاً جنونياً ضد الآخرين بناءً على جريمة نكراء راحت ضحيتها طفلة بريئة، وارتكبتها امرأة تشير كافة المعطيات أنها "مخبولة" وقريبة من الجنون النفسي والعصبي.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.