لم يأتِ السيد مصطفى مدبولي إلى رئاسة الوزراء من دهاليز السياسة، ولكنه من دواليب جهاز الدولة، فهو "تكنوقراط"، موظف بالدولة المصرية، نبيه ومجتهد وتقلّد المناصب وترقى داخل وزارة الإسكان والمرافق العامة طيلة حياته العملية.
في استهلال المؤتمر الاقتصادي استعرض السيد رئيس الوزراء تاريخ المؤتمرات الاقتصادية المصرية، وكشف لنا أن المؤتمر الاقتصادي الراهن هو الرابع في تاريخ المؤتمرات الاقتصادية.
المؤتمر الأول كان في عام 1982، في أعقاب تولي حسني مبارك الرئاسة. المؤتمر الثاني كان عام 1996، في أعقاب غفران مصر من نصف ديونها الخارجية، وكانت مصر بصدد إعادة ضبط بوصلتها الاقتصادية، بانتهاء مرحلة الاقتصاد المختلط وتدشين الاقتصاد الحر. والمؤتمر الثالث كان في عام 2015 في أعقاب تولي عبد الفتاح السيسي الرئاسة واستتباب الحكم له.
للغرابة، لم يعرض السيد مدبولي أياً من قرارات أو نتائج مؤتمر 2015، بل أولى تركيزاً شديداً على قرارات المؤتمر الأول، وقارن بين السياسات التي اقترنت بالمؤتمر (عرض اشتراك مسؤولين اقتصاديين وسياسيين صاروا أعلاماً ورؤساء وزراء فيما بعد)، وبين النتائج التي تحققت.
عرض السيد مدبولي صوراً لتردّي البنية التحتية من المدارس والصرف الصحي والمواصلات العامة والسكن العشوائي وغيرها من المشاهد المؤلمة، إلى جانب استعراض لمؤشرات الموازنة العامة والدين العام من عام 1982 وإلى عام 2011، وأعلن أنه خلال ثلاثين سنة كان هناك 19 سنة الدين العام أعلى من 100% من الناتج المحلي.
قرارات المؤتمر الأول لم تنفذ في ثلاثين سنة بأكثر من 50%، استهدفت القرارات إنهاء الأمية، وكان مؤشرها آنذاك عند 26% وما زالت كذلك تقريباً.
استهدفت معدل نمو اقتصادي عالياً للدول النامية فتحقق متوسط 4.4% مقابل 5% للدول النامية. استهدفت بناء وحدات سكنية، وكان المستهدف 450-500 ألف وحدة سنوياً، بني بالكاد 250 ألفاً، استهدفت أيضاً توفير 500 ألف فرصة عمل سنوياً ولم نتمكن مِن أكثر من 200 ألف.
كما استمر عجز الموازنة العامة بما يساوي 8-10% من الناتج المحلي، من بين القرارات ضرورة إبقاء الدعم للطبقات غير القادرة، وتدعيم القطاع العام الصناعي، وإزالة معوقات عمله، وتحسين الإدارة وزيادة الصادرات الصناعية.
لكن بعد مؤتمر 1996 ارتأى النظام المصري التخلص من القطاع العام الخاسر وبيع الرابح- لم يتعرض مدبولي لهذه النقطة- وكان من بين القرارات ضرورة استصلاح 150 ألف فدان سنوياً، لم يستصلح إلا أقل من 80 ألف فدان سنوياً.
رغم تأكيد السيد مدبولي أنه لا يلوم المسؤولين طيلة 30 سنة على عدم تنفيذ القرارات، لأنه برأيه هذا ما مكنت موارد مصر القليلة الوزارات المختلفة من إنجازه!
وكما فهمت من السيد رئيس الوزراء، فإن الحالة الاقتصادية سنة 2011 لم تكن جيدة، رغم معدلات النمو المرتفعة، وخاصة النمو الصناعي في سنوات وزارة أحمد نظيف. إذن لماذا يستغرب من الانفجار الشعبي في "25 يناير"؟ إذا كانت الغالبية من السكان تعاني من الضيق الاقتصادي، وتردي الخدمات العامة من تعليم وصحة ومواصلات، لماذا لا تضج جماهير الشباب من البطالة وانعدام الفرص، وسط أجواء احتفالية بالعبور الاقتصادي العظيم، والرخاء المبالغ فيه، لدرجة طبخ مشروع توريث الحكم لنجل الرئيس؟
ما لم يقله السيد مدبولي لأنه تكنوقراط إلى آخر المدى، أن مصر عاشت في نوبات من الإرهاب المسلح بطريقة متواصلة، من عشية اغتيال أنور السادات حتى تنحي حسني مبارك، وأن سياسة البلاد تراوحت ما بين الاتفاق مع الإسلام السياسي أو التضييق عليه، بحسب الظرف الراهن.
وسط لعبة القط والفأر تلك، تسلفنت (من المذهب السلفي) مصر بالقصور الذاتي، وتسرطن المجال العام ثقافياً وإعلامياً وداخل دواوين الدولة وأجهزتها بخلايا نشطة ونائمة للسلفية، ظلامية الرؤية.
بينما سيطر الأمن على الجامعات والإعلام والأحزاب، بالحسنى أو بغيرها، فلم ينتج مجتمعاً مدنياً نشطاً وفعال، بل بؤراً مكبوتة ومتطرفة قابلة للانفجار في أي وقت وفي أي مكان!
أنا أشكر السيد مدبولي على قراءته العلمية لتاريخ المبادرات السياسية والاقتصادية منذ الثمانينات، ولكنني أسأله، إذا كان استبعاد السياسة والشعب من دوائر القرار، وتشديد الهيمنة الأمنية لم يمنع من التردي والانهيار، لماذا إذن ننتهج نفس النهج؟
لماذا لم نهتم بالتعليم أو بمحو الأمية؟ لماذا لا نكترث بالعجز التجاري وعجز الموازنة العامة وانهيار العملة وزيادة التضخم؟
ماذا استفدنا من تخفيض قيمة الجنيه، في نوفمبر/تشرين الثاني 2016، ولماذا نحتاج تخفيض قيمة الجنيه 40% مرة أخرى؟
إذا كان على رأس توصيات المؤتمر الأول تفادي الانفجار السكاني بكل الوسائل، فلماذا لا نسأل الرئيس السيسي، لماذا أنجب أربعة أبناء والبلد يئن من الانفجار السكاني؟
إذا كانت الحكمة هنا أن مشاكل مصر أكبر من وزارة واحدة أو جيل واحد، لماذا الإصرار على البقاء والتشبث بنفس السياسات والتسلط والزيف والبهرجة الكاذبة؟
إذا كان 60% من سكان مصر أقل من 30 سنة عمراً، فماذا أعددنا لهم لكي يدركوا التحديات ويتولوا الصدارة في المواجهة؟
سيدي الدكتور المهندس رئيس الوزراء، إنجازات السلطة الحالية هي تمكين النساء وتعظيم مشاركتهن السياسية في البرلمان، وإعادة تمكين الأقباط من النيابة البرلمانية، وفتح الباب لبناء الكنائس، ورأب الصدع في اللحمة الوطنية بعد طول انتظار وتردد.
أما بقية المشروعات من الطرق والمزارع السمكية واستصلاح الأراضي وبناء مصانع الأسمنت، فأتمنى الاطلاع على اقتصادياتها وربحيتها، آملاً ألا تكون مثل تفريعة قناة السويس الجديدة التي كلفتنا ثمانية مليارات دولار.
أعرف أن حكيماً يمشي في بلادنا قائلاً: ليس بالأرباح تحيا الشركات، ولكن بالروح المعنوية العالية! ولكن يا معالي رئيس الوزراء هكذا أهدرنا قدراتنا على مشروعات "فوسفات أبو طرطور" و"توشكى" و"مديرية التحرير" وغنينا ورقصنا لتلك الإنجازات.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.