حكاياتهم المضللة تكوّن انطباعات خداعة.. لماذا يُبالغ صناع المحتوى في تصوير الحياة بأوروبا؟

عربي بوست
تم النشر: 2022/10/18 الساعة 08:08 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/10/18 الساعة 08:08 بتوقيت غرينتش

قبل أيام انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي قصة ممر "مجاني" في إحدى محطات المترو في السويد، وخلاصة القصة أن مهندساَ مصرياً ـوالمُلاحظ أن جنسية بطل القصة تتغير من موقع لآخرـ لاحظ وجود "ممر" يسمح للركاب بأن يركبوا القطار بدون أن يدفعوا ثمن التذاكر، واستغرب المهندس من الموضوع، خاصة أن الممر بلا "حراسة"، وحين توجه إلى "بائعة" التذاكر وسألها عن هذا الممر أخبرته أنه مخصص للأشخاص الذين ليس لديهم المال لدفع ثمن التذاكر!

ومن ثم سألها المهندس سؤالاً "بديهياً" وهو عن الأشخاص الذين قد يستغلون الممر رغم قدرتهم على الدفع، فأجابته الموظفة بابتسامة صافية "مستغربة": ولماذا يفعل أي شخص ذلك؟ فلم يتمكن المهندس من إجابتها ودفع ثمن تذكرته، وتبعه "حشد" من الناس، وبقي ذلك الممر فارغاً لا يستخدمه أحد!

 ثم تنتهي القصة بالثناء والإعجاب على مجتمع نجح في تحويل "القيم" إلى شيء بديهي.

ورغم ما في هذه القصة من مبالغة وأخطاء بعضها مضحك، مثل الحديث عن وجود "بائعة تذاكر" في بلد يكاد يتخلى تماماً عن استخدام الأوراق النقدية، إلا أن الكثير من التعليقات كانت تطري وتثني على الموضوع باعتباره حقيقة مع كثير من الحسرة والمقارنة بين ما وصلت إليه تلك المجتمعات وبين ما يوجد في دول أخرى لا يوجد فيها مثل تلك "الممرات" المجانية!

مثل هذه القصص والمواضيع تنتشر دائماً من وقت لآخر والسمة المشتركة بينها جميعاً هي المبالغة الشديدة في التوصيف وعرض الجوانب الإيجابية بطريقة سطحية ساذجة بعيدة كل البعد عن الحقيقة والواقع المُعاش، وربما يعتمد من يقوم بتأليف وترويج مثل هذه الحكايات على أن كثيراً من المتفاعلين لم تتح لهم الفرصة للتعرف عن كثب على واقع الحياة وتفاصيلها الحقيقية في المجتمعات الغربية واعتماد الكثير من هؤلاء في تصوراتهم عن هذه المجتمعات على ما يرد في الشاشات والأفلام والروايات وبالطبع ما يصلهم من أشباه هذه القصص.

فأين الحقيقة من المبالغة والخيال فيما ينتشر من قصص مماثلة عن الحياة في المجتمعات الغربية والأوروبية؟ 

القاعدة الأولى التي ينبغي أن يدركها كل من تمر عليه مثل هذه القصص والحكايات هي أن أفراد هذه المجتمعات لا يعيشون تلك الحياة "المخملية" التي تروج لها تلك الروايات، وبالتالي فإن حجم المبالغة دائماً كبير للغاية ولا يمت للواقع بأدنى صلة.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنه حين يتعلق الأمر برفاهية الحياة ومستوى المعيشة والدخل، فإن هناك تفاوتاً كبيراً بين الدول الأوروبية نفسها في هذه المجالات، فهناك دول أوروبية كثيرة ـ بالذات تلك الواقعة في شرق أوروبا ـ تعاني من مشاكل اقتصادية ونسب عالية في معدلات الفقر والبطالة، ولذلك من الشائع أن تجد أبناء هذه البلدان يهاجرون إلى الدول الأوروبية التي تتمتع باقتصادات أقوى من أجل البحث عن فرص عمل وحياة أفضل.

ولو أردنا أن نُعدد هذه الدول الأوروبية التي تتمتع باقتصاد قوي وفي نفس الوقت تحاول أن تؤمن لمواطنيها أنواعاً مختلفة من الدعم لتغطية احتياجاتهم الاقتصادية والاجتماعية، وهي ما تعرف بدول الرفاه الاجتماعي وبعيداً عن الخوض في مسألة الفروقات فيما بينها، فإن هذه الدول هي باختصار بريطانيا وألمانيا وفرنسا وبلجيكا وهولندا ومجموعة الدول الاسكندنافية.

ومع ذلك، فإن طبيعة الحياة في هذه المجتمعات لا تمت بصلة إلى تلك القصص التي تنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي، مثل قصة ذلك الممر المجاني في محطة القطار السويدية، فالناس في هذه المجتمعات تعمل وتكد وتكدح كي تؤمن احتياجاتها المعيشية المختلفة، ويدرك هؤلاء أنه لا يوجد شيء يمكن الحصول عليه بالمجان، ولا يعني تبني الدولة لنظام الرفاه الاجتماعي أنها تقوم بتدليل مواطنيها من خلال توفير وسائل مواصلات مجانية مثلاً، أو بتوزيع الأموال والمكافآت عليهم بدون أن يستحقوها ويعملوا من أجلها!

فمن يركب الباص أو القطار عليه أن يدفع ثمن التذكرة بغض النظر عن حالته الاجتماعية والمادية، والاستثناء هنا يتمثل في نوع من "تخفيض" قيمة التذاكر لفئات معينة ضعيفة، مثل ذوي الاحتياجات الخاصة والأطفال والطلاب، وحتى هذا الأمر يخضع لتقييمات وتصنيفات معقدة فيتم مثلاَ تحديد حجم الإعاقة بنسبة مئوية تحدد بدورها قيمة التخفيض التي يمكن أن يحصل عليها الشخص المُعاق.

ومع ذلك وحتى في هذه المجتمعات التي تسعى لتحقيق أكبر قدر ممكن من المساواة في توزيع الثروات وتقديم الدعم الاجتماعي لمواطنيها لا يزال هناك تفاوت في مستوى الدخل والمعيشة بين أفراد المجتمع نفسه، فالطبقة الغنية تشكل في العادة نسبة صغيرة وغالبية أفراد المجتمع تنتمي للطبقة المتوسطة، وهناك أيضاً من ينتمون للطبقة الفقيرة (بمقاييس هذه المجتمعات طبعاً)، ففي ألمانيا مثلاً هناك أشخاص مشردون و آخرون فقدوا وظائفهم، وبالتالي مساكنهم؛ لعدم قدرتهم على سداد الإيجارات و الفواتير، فلا يعني هذا أن الدولة ستقوم في هذه الحالة بسداد الإيجارات والفواتير عن هؤلاء، أو ستقوم بتوزيع بيوت مجانية عليهم، كما قد يتصور من يعتقد بصحة قصة الممر المجاني، إنما يتلخص دعم الدولة في هذه الحالات ـ إذا كان الشخص يعيش في دولة تتبنى نظام الرفاه الاجتماعي- في المساعدة بما يضمن توفير الحد الأدنى من المأكل والمشرب، وقد يتم نقل هؤلاء الأشخاص إلى مساكن مشتركة مؤقتة تديرها الدولة، وقد يلجأ بعضهم إلى طلب المساعدة من المنظمات الإنسانية أو حتى الكنائس من أجل توفير المأوى والمأكل والملبس!

هل يعني هذا الكلام أن الصورة بهذه القتامة، وأن من يعيش في هذه الدول لا يحصل على أي مزايا؟ طبعاَ لا.

فالدول التي تتبنى نظام الرفاه الاجتماعي "تحاول" قدر المستطاع أن توفر قدراَ من العدالة والدعم عبر منظومة من القوانين تنعكس بشكل رئيسي على قطاعات الصحة والتعليم والتأمين ومعاشات التقاعد والحد الأدنى للأجور، إلى جانب توفير أنواع مختلفة من الدعم لفئات المجتمع الضعيفة، وقد تكلمت عن هذه الأمور بنوع من التفصيل في مقال سابق لي هنا، ولكن هناك فرق كبير عند التطرق إلى المساعدات الاجتماعية التي تقدمها هذه الدول لبعض فئات المجتمع المستحقة بالفعل لهذه المساعدات وعند الحديث عن القصص الركيكة التي تنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي والمليئة بتفاصيل سطحية خيالية ومضحكة أحياناً!

فمثلاً أرسل لي قبل مدة أحد أقربائي قصة طويلة انتشرت على مجموعات الواتس اب عن أسرة جاءت إلى ألمانيا وعاشت في منزل على نفقة الحكومة لمدة ثم طُلب منهم أن يتكفلوا هم بالنفقات، وحين لم تدفع الأسرة فاتورة الكهرباء لشهر واحد تم فصل التيار عن البيت واضطرت الأسرة لاستخدام الشموع.. المهم باختصار ومنعاً للتطويل تحول الموضوع إلى قضية رأي عام واضطرت شركة الكهرباء في النهاية إلى الاعتذار وقدمت للأسرة "سنة" مجانية اشتراك كهرباء مع هدايا وتعويضات مادية وصلت إلى آلاف اليوروهات! 

الطريف هنا أن القصة تنتهي بهذا الطلب حرفياً "لا تجعلها تقف عندك لعلك تساهم في مكافحة (الاستحمار) وتوعية العقول"!

طبعاً لو توقفت بالتحليل عند هذه القصة الركيكة الخالية من أبسط قواعد العقل والمنطق لاحتجت إلى مقال كامل، لكن نوعية هذه القصص تُظهر بالفعل حجم التصور الخيالي وغير المنطقي لدى كثير من الناس عن أسلوب وطريقة الحياة في المجتمعات الأوروبية، والأدهى أن مثل هذه القصص تنتشر بسرعة بلا تمحيص ولا تدقيق بفضل تقدم وسائل التواصل المختلفة، والنتيجة في النهاية هي انتشار المعلومات الخاطئة والمُضللة بين الناس التي تساهم في خلق وتكوين انطباعات خادعة، وهنا تكمن خطورة الأمر؛ لأن المقارنة والاطلاع على أحوال مجتمعات مُعينة قد تكون هي الخطوة الأولى لتحسين وتعديل أوضاع مجتمعات أخرى، وهذا لن يتم بالبناء على حكايات مُضللة لا أساس لها على أرض الواقع، وهذا هو ما يجب التنبه إليه عند قراءة مثل هذه المواضيع، وطبعاً قبل الضغط على زر "المشاركة" أو "إعادة الإرسال".

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أنيس الباشا
كاتب يمني مقيم في ألمانيا
مستشار لشئوون الهجرة في ألمانيا وناشط تطوعي في المنظمات الألمانية المعنية بشئوون الهجرة
تحميل المزيد