بعد طول انتظار ومحادثاتٍ شاقة، وصلت الأمور إلى خواتيمها، فلقد أصبح لبنان رسمياً بلداً نفطياً بعد ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، فهذه المحاثات لم تكن وليدة اللحظة، وإنما هي مسيرة طويلة ولكنها في البداية لم تكن ضمن الأولويات الدولية، ولكن بعد أن تحوّل العالم إلى قريةٍ صغيرة، أصبحت كل دول العالم تتأثر بأي أزمة سياسية أو حربٍ بسبب التداخل التجاري والاقتصادي، فلقد جاءت الحرب الأوكرانية الروسية كسببٍ رئيسي لتسريع عملية الترسيم وإنهاء هذا الملف، وجراء هذه الحرب تحوّل لبنان بعد أن كان خارج المعادلة الدولية في الآونة الأخيرة من دولةٍ معزولة إلى مقرٍّ وممرٍ استراتيجي يتمتع بأهمية جيو-اقتصادية بسبب امتلاكه كمياتٍ كبيرة من الغاز والنفط.
طبعاً اعتبر البعض أن ما حصل هو خيانة وتسليم بحق السيادة الوطنية، وذلك بعد أن تخلّت السلطات السياسية عن حق لبنان المشروع، حسب قانون البحار والمحيطات بخط 29 وموافقتها بخط 23، ولكن دعونا من اللغة الشعبوية والوطنية والسيادة التي لا قيمة لها في ميزان المصالح والسياسة الواقعية، نعم ما حصل هو تخلٍّ عن ثرواتٍ لبنانية لإسرائيل، ولكن ما حصل هو ضمن سياق
الـ win-win situation، الجميع ربح في هذه الصفقة ولو بنسب متفاوتة بحسب ظروف كل الأطراف، إلا الشعب اللبناني؛ فهو الخاسر الوحيد إذا لم يكن هناك قرارٌ سياسي جريء للإصلاح والاستفادة من هذه الفرصة وإنقاذ ما تبقى من لبنان، عودةً إلى مفهوم الربح الذي حققه الجميع، قد يتساءل أحدهم كيف حقق الجميع الربح؟ ما هو الميزان الذي تم قياس هذا الربح به؟
ميزان الدولة اللبنانية
يعيش لبنان منذ قرابة السنتين حالة سيئة متعددة الأوجه، على المستوى الاقتصادي والسياسي والنقدي وحتى الدبلوماسي، فلقد تراجعت الثقة الدولية به خصوصاً بعد إعلانه عدم سداده لليورو بوند، وبسبب الخطابات الهجومية تجاه العديد من الدول وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، فلقد تحوّل إلى جزيرة معزولة عن العالم الخارجي، فلم يعد لبنان ضمن الأولويات الدولية، خصوصاً بعد دخول العالم في أزمة كورونا وآثارها الضخمة على اقتصاديات العالم والأنظمة السياسية والاجتماعية وغيرها؛ مما أدى إلى انشغال العالم في ملفاتٍ غير لبنان، إضافةً إلى أزماتٍ عالمية أخرى أهم من ذلك البلد الفسيفسائي، وبعد جريمة تفجير 4 أغسطس/آب، أصبح لبنان بلداً منكوباً وبقعة جغرافية تخرج منها رائحة العذاب والقهر والفقر، كل هذه الأحداث جعلت لبنان يخسر كل أوراقه التفاوضية مع إسرائيل والوسيط الأمريكي، فالضغوط الداخلية السياسية والاقتصادية وتشرذم موقف السلطة تجاه هذا الملف، كل هذه العوامل أدت إلى ضعف موقف لبنان وعدم قدرته على المناورة، من خلال هذا الترسيم، حصل لبنان على أفضل ما يستطيع أن يحصل عليه. هذا على مستوى الدولة كمؤسسة، فهذا سوف يؤدي إلى استقرار سياسي وأمني، وسوف يؤدي إلى حالة من الازدهار في السنوات القادمة، ولكن هذا لا يعني أن الأزمات السياسية لن تحصل، فهذا كله مرهون بالأداء السياسي لكل الفرقاء.
أما بالنسبة لرئيس الجمهورية ميشال عون وعهده، فلقد جاء اتصال الرئيس بايدن به وإتمام صفقة الترسيم كحيلة خلاص له من لعنة التاريخ نوعاً ما، ففي عهده حصل الانهيار على كافة المستويات، فهذه الصفقة بوجهة نظره هي إنجازٌ حصل في عهده.
الميزان الإسرائيلي
تعيش إسرائيل حالة إرباك وأزمة الـ8 عقود، وهي أزمة وجودية تتكرر في وجدان الإسرائيلي؛ حيث يخشى حدوثها بعد اقتراب عمر الدولة من الـ80 سنة، وبسبب الاضطرابات السياسية والتجاذبات الداخلية، فهذه الخطوة تعزز من الاستقرار السياسي وتزيد فرص النجاح لرئيس الحكومة الإسرائيلي في الانتخابات المقبلة، لذلك قررت إسرائيل الإذعان والرضوخ للضغوط الأمريكية التي طالبت بتسوية ملف الترسيم.
ميزان حزب الله
كما هو معلوم، فإن ملف الترسيم كان يعمل عليه حزب الله بشكلٍ غير مباشر، فلقد أوكل المهمة إلى الرئيس بري وإلى الفريق التفاوضي، ولكنه كان يعمل من وراء الكواليس، فهو مهتم جداً بقضية الترسيم؛ لأنه بكل بساطة هو حزب سياسي وليس دولة وغير قادر على أن يكون البديل عن الدولة في القضايا الاجتماعية والاستشفاء وغيرها من خدمات، فإن الانهيار الحاصل ضربت بيئته ولم تكن بعيدة عن نتائج هذا الانهيار، فإن بيئة حزب الله تعاني من تدهور العملة وتضخم الأسعار والانحلال الاجتماعي الذي أصاب كل المؤسسات، لذلك كان من الضروري أن يوافق على هذا الترسيم الذي سوف يساعد بيئته في الخروج من هذا الجحيم، لست هنا للدفاع عنهم، ولكن الترسيم هو موضوع مصلحي وسياسي، وهو مدرك أن العملية أكبر من حزب الله والدولة اللبنانية، فهذا يتعلق بالمصالح الدولية وأهمها الغاز لأوروبا؛ خصوصاً بعد الحرب الأوكرانية وتوقف ضخ الغاز الروسي إلى القارة الأوروبية. كما أن الترسيم سوف يؤدي بطبيعة الحال إلى انتعاشٍ السوق العقاري في الجنوب اللبناني حيث بيئة حزب الله، وسوف ينتعش أيضاً اقتصادياً، والأهم هو الاستقرار السياسي والأمني لأن استخراج النفط والغاز يفرض هذا النوع من الاستقرار؛ مما يعني احتواء الغضب الشعبي تجاه الحزب بسبب الانهيار الذي هو أحد أهم أركانه.
الميزان الأمريكي
الانتخابات النصفية الأمريكية أصبحت قريبة وهي على الأبواب، ولقد أخفق الرئيس بايدن في الكثير من الملفات منها ملف التقارب العربي الأمريكي وحلحلة ملف تخفيض إنتاج النفط الذي أقرته منظمة الأوبك بلس الذي يُعتبر صفعة للولايات المتحدة الأمريكية وخصوصاً بايدن، فنجاح هذا الملف والترويج له سوف يرفع من شعبية الحزب الديمقراطي، فهذا الترسيم سوف يساعد القارة العجوز لتجاوز أزمة الطاقة.
على صعيد الشعب اللبناني، لا يستطيع أحد أن ينكر أن لبنان خسر قرابة الـ1400 كيلو متر من حدوده المائية المليئة بالنفط والغاز، ولكن في الوقت الراهن والوضع الاقتصادي، فهذه العملية تجلب الأمن الاجتماعي والاقتصادي، طبعاً إن كانت هناك إرادة سياسية حقيقية، وجميع الأفرقاء السياسيين من نواب ووزراء وكتل سياسية تدرك أن هذه هي قدرة لبنان التفاوضية بعد خسارته كل أوراق التفاوض بسبب النكاسات.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.