إن اللحظة التي سيوقع بها لبنان رسمياً على اتفاق الترسيم مع إسرائيل ستكون لحظة مفصلية بتاريخ بلد يعيش أسوأ انهيار مالي عاشته دول المنطقة منذ عقود، وعلى الأرجح ستكون لحظة الاتفاق رسمياً هي اللحظة التي سيبدأ بعدها لبنان بالصعود من منزلقات الهاوية، وعندما يتمُّ التوقيع، سيصبح لبنان قولاً واحداً عضواً في نادي الدول المصدِّرة للغاز والنفط، وسواء بدأ الاستخراج بعد عامين أو أكثر، فإن مفاعيل استثمار الطاقة البحرية ستصبح أمراً واقعاً في اللحظة التي يتم فيها التوقيع، وعندما يصبح يقينياً أن لبنان سيسحب من مخزونات أرضه كميات من الغاز تقدّر قيمتها بمليارات الدولارات، بعد فترة ليست بعيدة نسبياً، بضمانة الولايات المتحدة والأمم المتحدة وشركات أوروبية، سيصبح سهلاً تعاطيه مع العالم في المسائل المالية والاقتصادية.
وما جرى هو تحضير لمرحلة أمنية سياسية جديدة في المتوسط، لا يفترض أن يحصل فيها أي تصعيد، لا سيما أن مجمل النقاش كان متركزاً على الضمانات الأمنية التي قرع بها رأس آموس هوكشتاين، أما بعدها فإن النقاش يتركز على آلية الاستخراج والتصدير إلى أوروبا، ويصلح مثل هذا التصور لتقديم رؤية جديدة إلى مستقبل المنطقة، التي على ما يبدو أن كل الضغوط تدفع باتجاه دخول الجميع في حقبة تطبيع بغض النظر عن إعلانه أو عدم إعلانه، وعلى الرغم من أن المفاوضات مستمرة منذ 2010، إلا أن الانفجار في أوكرانيا هو الذي دفع إلى هذه التحولات الكبرى.
ومنطقة شرق المتوسط على الرغم من اتفاق الترسيم لا تزال حذرة، حيث الخوف من أي تفجير هو رهن أي لحظة، وخاصة أن التصعيد التركي مع اليونان ومصر عاد واندلع على خلفية الاتفاقية البحرية بين أنقرة وطرابلس الليبية، بالمقابل كادت مزايدات البازار الانتخابي في إسرائيل أن تطيح بالترسيم البحري مع لبنان تحت عنوان الضمانات الأمنية في الاتفاق. لكن الرئيس الأمريكي جو بايدن كان مصراً على إنجازه قبيل الانتخابات الأمريكية والإسرائيلية، ما سمح بالإعلان عن الاتفاق بين بيروت وتل أبيب.
حيث حرص بايدن خلال اتصاله مع عون على القول إن الاتفاق هو الممر الإلزامي للحدّ من حال الانهيار والدخول في مشروع إعادة الاستقرار ووقف الارتطام. ومع إسرائيل كان الضغط على يائير لابيد المرتبك بسبب وضعه المحشور، بأن تسويق الاتفاق سيؤدي إلى تحسين صورته في الانتخابات لا العكس، وأنّه ضمان أمني للحدود مع لبنان وإجبار حزب الله المرتبك بفعل الانهيار المالي على الذهاب لهدوء عسكري، لكن بنيامين نتنياهو سعى في المقابل إلى نزع الشرعية عن الاتفاق، وهذا الأمر قد يترجم في الانتخابات إما فوز أو هزيمة لأحدهما.
فيما استطاع حزب الله هو وحليفه جبران باسيل تحقيق فوز داخلي إما عبر دبلوماسية إلياس بو صعب أو تهديد حزب الله باستخدام القوة، وذلك بغض النظر عن تفاصيل الاتفاق ومضامينه أو عن انتظار استكماله وضمان آلية تنفيذه، وسيكون الأساس في تطبيقه هو واشنطن وتطوره معطوفاً على اتفاق ضمني مع إيران، لكن بعض التفاصيل والملفات لا يمكن تخطيها محلياً وهي تخلي عهد عون ومن خلفه الحزب إياه عن كاريش والخط 29، وهناك أطراف كانت تصر على تبني هذا الخط، لكن الحزب ربح باختيار التوقيت المناسب لإخراج الاتفاق ولعب ورقته، وعلى وقع توقيت معقد دولياً وإقليمياً، ضمن معادلة الردع والمناورات، وهي معادلة لن يتخلى عنها الحزب، والمسوغات للإبقاء على السلاح ستكون ناجزة تحت عناوين حماية البحر وضمانة ترسيم البر.
بالمقابل فإن توقيت الاتفاق يأتي بالتزامن مع توتر العلاقة الأمريكية مع السعودية بعد قرار الرياض خفض الإنتاج لمليوني برميل يومياً، بدءاً من مطلع الشهر المقبل، لكن البعض يخشى أن يؤثر أي تصعيد محتمل بين واشنطن والرياض على الملف اللبناني في ظل ما حكي سابقاً عن تعهدات جرى الاتفاق عليها في اجتماع واشنطن بين وزراء خارجية واشنطن وباريس والرياض، وهي أن تقوم السعودية برعاية إعادة دعم لبنان ومؤسساته بالتعاون مع قطر والكويت بحسب الخلية المشتركة بينهم والتي سعت لها إدارة بايدن.
لذا فإن الإدارة الأمريكية قرأت قرار أوبك+ هي محاولة سعودية على شاكلة لعبة "روليت" خطيرة للضغط باتجاه فوز الحزب الجمهوري، بالمقابل فإن أوساط استخبارية أمريكية لا تنفي فرضية اتفاق ثلاثي بين روسيا والرياض ونتنياهو للضغط في ملفات مشتركة يتقاطع بها الأطراف، بدءاً من سعي موسكو لإيجاد بدائل مالية لتمويل حربها على كييف، خصوصاً أن موسكو تلوّح باستخدام القوة النووية.
بالتوازي فإن السعوديين والإسرائيليين مستاؤون من اندفاعة واشنطن وأوروبا بالعودة للاتفاق النووي مع، والذي سيعطي طهران قوة للحصول على عشرات المليارات في الأشهر الأولى، بالإضافة إلى مئات المليارات في المراحل المقبلة، فيما الخشية السعودية تكمن في تخوف من فك الحوار الجاري مع طهران حول اليمن واستخدام طهران لقوتها المالية في ملف تمويل الحرب اليمنية والتي تستنزف الرياض وأبوظبي، لذا يبدو أن هناك اندفاعة سعودية-إماراتية تجاه موسكو لاستخدامها كطرف وسيط مستقبلي مع طهران طالما أن واشنطن لا تقدم أي ضمانات في الملف اليمني.
بالمقابل فإن واشنطن تعيد ترتيب حلفاءها في المنطقة في ظل تصريحات عالية السقف تجاه الرياض عبر بايدن أو عبر مستشار الأمن القومي جاك سوليفان حول تصعيد محتمل تجاه المملكة، أعقبه انسحاب الأمريكيين من اجتماع كان مزمعاً عقده في الخليج ومخصصاً للملف الأمني المرتبط بصواريخ ايران ومسيراتها، بالتوازي أفرجت إدارة بايدن عن صفقة طائرات إف-16 مع تركيا والتي تمسك العصا من المنتصف في ملفات المنطقة الحساسة، وخاصة في لعبها على خط رفيع بين الولايات المتحدة وروسيا.
كذلك فإن اندفاعة أمريكية تجاه قطر أعطت الدوحة أوراقاً مهمة تبدأ باليمن وإفريقيا والعراق ولا تنتهي في سوريا ولبنان والدوحة التي تتحضر لاستضافة أهم حدث تاريخي في الشرق الأوسط وهو المونديال منتصف الشهر المقبل، تعيد اللعب بأوراقها في المنطقة وليست قطر بعيدة عن اتفاق الترسيم ولا عن اللعب في مساحات إيجاد الحلول لأزمة لبنان المالية والسعي لحل أزمات سياسية وهي حاضرة للمساهمة في إيجاد حل لملف رئاسة الجمهورية بكونها تتمتع بعلاقات مع الأطراف اللبنانية دون استثناء.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.