تشكّل قرية التواني نهاية الطريق. إنها هكذا حرفياً. فخلفها يوجد طريق لإحدى المستوطنات، الذي يبدأ في القدس وينتهي عند جنوب جبل الخليل.
أما أمامها، فتوجد منطقة مسافر يطا، وهي عبارة عن منطقة تغطي مساحة 30 كيلومتراً مربعاً، أعلنتها إسرائيل منطقة إطلاق نار عسكرية في ثمانينيات القرن الماضي.
يتورط سكان مسافر يطا، البالغ عددهم 2500 فلسطيني، بصورة يومية في معارك ضد المستوطنين والجنود الإسرائيليين.
في الصباح الذي وصلت فيه إلى قرية التواني، نظر أشرف محمود العمور بهدوء إلى كتلة من الجدران المتهاوية. كانت هذه أطلال منزله. هدمته جرافة قبل ساعات. ما أدهشه أن الجنود تركوا السقيفة التي كانت على اليسار وحظيرة الدجاج على اليمين، وكلا المكانين صدرت أوامر بهدمه.
قال العمور: "سأخبرك أين ننام في الليل، مع الدجاج والماعز".
أضاف العمور، الذي لديه خمسة من الأبناء والبنات: "كل ما يريدونه هو مغادرتنا. هدم المنازل، وحظرنا من الوصول إلى الحقول، وإرهابنا طوال الوقت عن طريق الجنود والمستوطنين في الجوار، واحتلال منازلنا، واعتقالنا. ونعرف أن ما يريدونه من هذا هو إبعادنا. هذا هو التحدي الذي نقبله".
وتابع قائلاً: "إنهم يحاولون أن يُظهروا للعالم أننا نحن الإرهابيون. فمن هم الإرهابيون؟ نحاول البقاء في بيوتنا. هم الذين يرهبوننا. سوف أبقى هنا حتى لو اضطررت للنوم تحت صخرة".
ثمة لافتتان على بُعد بضع خطوات من الطريق الترابي. تقول اللافتة الأولى: "مساعدات إنسانية إلى الفلسطينيين الذين يواجهون خطر التهجير القسري في الضفة الغربية"، مع شعارات 11 وكالة إغاثة حكومية تابعة للاتحاد الأوروبي.
لا يحمل تعبير الدعم الدولي قيمةً كبيرةً في ردع المستوطنين، ففوق اللافتة تُعرض صورة لهارون أبو عرام، البالغ من العمر 26 عاماً.
يرقد أبو عرام اليوم مشلولاً في مستشفى بعد أن كان يحاول الدفاع عن المغارة التي يعيش فيها.
كان مزارعٌ آخر يدعى حافظ الهريني، محظوظاً لنجاته بذراعين مكسورين.
تعرض الهريني لهجوم من خمسة مستوطنين مُقنَّعِين ومسلحين بمواسير معدنية، وفي صحبتهم جنود كانوا خارج الخدمة يطلقون الرصاص في الهواء، بينما كان الهريني متجهاً إلى أرضه. دافع الهريني عن نفسه بمجرفة.
قال ابنه سامي: "كانوا خمسة ضد رجلٍ يبلغ من العمر 52 عاماً. عندما وصلت إليه، كان أبي ينزف من ذراعه اليمنى ويمسك ذراعه اليسرى. جاء آخرون من أهل القرية خلفي، وجاء كثير من المستوطنين والشرطة".
قالت الشرطة حينها إنهم سيلقون القبض على الرجل المصاب.
تذكر سامي ما حدث وقال: "في تلك اللحظة بدأنا نثور غاضبين. وقف المستوطنون أمام سيارة الإسعاف. وضعنا أبي داخل سيارة الإسعاف. بدأ المستوطنون في طعن إطارات سيارات الهلال الأحمر كي تعجز عن التحرك".
وتابع: "صار الجيش قاسياً للغاية واجتاحنا. طاردونا من الموقع واستمروا في مطاردتنا. ثم نقلوا أبي داخل سيارة إسعاف عسكرية".
وبعد ذلك بدأت 10 أيام من اعتقال الهريني، الضحية الذي تعرض لهجوم المستوطنين.
نُقل الهريني إلى سجن عوفر، بعد اعتقاله للاشتباه في تسببه في أذى جسدي خطير للمستوطن الذي هاجمه، عُقدت محكمة عسكرية للحكم عليه بأكثر من 12 عاماً في السجن. وانهارت بأعجوبة قضية المُدعي العام ضده.
عُرض أمام المحكمة فيديو يعرض الحادث برمته. انتقد القاضي الشرطة للتأخر لأكثر من أسبوع قبل استجواب المستوطنين.
أشارت محامية الهريني، ريهام نصرة، إلى أن الشرطة فعلت ذلك كي تجعل الأدلة غير صالحة للاستخدام في المحكمة. وأوضحت: "المؤامرة التي حيكت ضد حافظ الهريني دُحضت بمجرد وصول الفيديو، الذي يوثق تعرضه للهجوم عن طريق مستوطنين مسلحين ومقنعين، إلى الشرطة والشعب".
وأضافت: "أيام اعتقاله العشرة كانت تستهدف فقط حجب الحقيقة والإبقاء على الرواية الزائفة التي اخترعها من اتهموه. من أجل هذا امتنعت الشرطة عن استجواب مهاجميه تحت طائلة التحذير لمدة تسعة أيام، ومن ثم إفساد التحقيقات التي هي في صميم مسؤوليتهم".
لكن العدالة العسكرية كانت ذات نهاية مريرة. فعند إطلاق سراح الهريني، أمروه بدفع كفالة 10 آلاف شيكل (حوالي 2800 دولار) والابتعاد عن أرضه لـ30 يوماً، انتظاراً لمزيد من التحقيقات في الحادث. أما المستوطنون الذين نفذوا الهجوم والجنود الذين كانوا خارج الخدمة وأطلقوا 6 طلقات في الهواء، فجميعهم كانوا طلقاء.
يُعد سامي واحداً من جيل جديد من المزارعين والنشطاء العازمين على مقاومة شراسة الدولة الإسرائيلية في كل أشكالها: المستوطنين، والجنود، ورجال الشرطة، والمحاكم.
دشن سامي مجموعة تسمى "شباب صمود". نسمع كلمة "صمود" هذه كثيراً في جنوب جبل الخليل.
قال سامي: "كنا نعيش في كهف عندما طُردنا من قريتنا. أصلحنا كهفنا، ونصبنا الجدران، وأوصلنا المياه إليه من القرية. جَعَلَنَا المحتل ندفع ثمناً باهظاً. لديّ عظام مكسورة. يبلغ عنف الاستيطان أعلى مستوى".
يختلف هذا الجيل: فهم واثقون، وعازمون، ومتصلون بالإنترنت، ويتحدثون الإنجليزية بطلاقة.
أوضح سامي: "تتوقع إسرائيل أن يموت الكبار، ويتوقف الشباب، ولكن يحدث العكس".
وأضاف: "لا نتلقى أية أوامر لبدء النضال. ليس لدينا قادة ولا ننتمي إلى أي فصيل. بدأنا النضال بأنفسنا".
يبدو سامي متفائلاً، إذ يقول: "أي شخص في هذا الموقف كان سيفكر في المغادرة، لكننا نواصل الوجود، ونبتسم، ونبيِّن لهم أننا أحياء، ونبيِّن لهم أننا لا نستسلم. وذلك هو الشيء الذي يميز شعبنا، أن نبيِّن لهم أننا مدهشون".
لكن الناشط السياسي الفلسطيني المخضرم جمال جمعة يبدو أقل تفاؤلاً. قال جمعة: "الإسرائيليون يحولون الضفة الغربية حرفياً إلى شبكةٍ من محميات السكان الأصليين. إنهم يصممون الجغرافيا والديموغرافيا في الضفة الغربية بطريقة تضمن لهم استمرار الهيمنة والسيطرة عليها".
يُحكم المستوطنون الآن قبضتهم على تضاريس الضفة الغربية. قبل اتفاقية أوسلو، كان المستوطنون يضطرون لعبور الخط الأخضر إلى الأراضي المحتلة في 1984 كي يحصلوا على عمل. أما الآن، فلديهم 19 منطقة صناعية، وهناك المزيد قيد الإنشاء، فضلاً عن المناطق الزراعية.
ومن خلال الأسماء المبهجة التي على شاكلة "بوابة الصحراء" و"مزرعة الكرم"، يمارس هؤلاء المستوطنون كل ممارسات الزراعة: بدءاً من زراعة الكرم ووصولاً إلى تربية الماشية.
أما المزارعون من السكان الأصليين في هذه الأرض، فإن الحياة بالنسبة لهم صعبة للغاية. إذ إن الطرق الترابية كانت شبه مسدودة بسبب الدوريات العسكرية الإسرائيلية.
قال جمعة: "ستعود إلى حياة سكن الكهوف وركوب الحمير".
شلل في رام الله
يُعرف هاني المصري بأنه أحد أبرز الصحفيين والمعلقين السياسيين في فلسطين.
المصري، الذي يشغل منصب المدير العام للمركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الاستراتيجية (مسارات)، يعتبر نفسه أحد المطلعين على مجريات الأمور داخل حركة فتح، وأحد المقربين من رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس.
لكنه لم يعد كذلك بعد الآن. قال المصري: "المرة الأخيرة التي رآني فيها، صار غاضباً قبل أن أحظى حتى بفرصة للحديث".
السبب الذي جعل المصري يخسر هذه المكانة يبدو واضحاً. صار المصري أحد أشد النقاد اللاذعين تجاه عباس، لكنه أحد أفضل النقاد المطلعين.
قال المصري: "لم تعد هناك قيادة في رام الله منذ وقت طويل. في البداية، تباهى أبو مازن بأن إسرائيل ستعطيه أكثر مما أعطت ياسر عرفات، لأنه كان معتدلاً ومناهضاً للعنف. ولكن في واقع الأمر، لقد فشل أكثر من عرفات".
وأوضح: "كانت ردة فعله على كل فشل هي "مزيد من المفاوضات"، لكن مشكلته أن إسرائيل ليست مكترثة للمفاوضات. بدون المفاوضات، تنهار شرعيته، ليس فقط بسبب عدم امتلاكه مشروعاً وطنياً، بل لأن جميع مصادر شرعيته قد جفت".
بعد حوالي ثلاثة عقود من التوقيع على اتفاقيات أوسلو، صار الرئيس البالغ من العمر 87 عاماً رئيساً على حطام دولة فلسطينية في طور التكوين.
قال المصري: "ليس هناك فتح، وليس هناك منظمة التحرير الفلسطينية، وليس هناك انتخابات، وليس هناك سلطة، وليس هناك مجتمع مدني، وليس هناك إعلام مستقل".
ولم يكن مندهشاً كذلك عندما سلَّط عباس الضوء على حسين الشيخ ليكون خليفته. دُفع الشيخ نحو منصبه الرئيسي، أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، في مايو/أيار.
وكشف المصري عن السبب الذي دفع عباس لاختيار الشيخ. قال المصري: "سُئل عن سبب اختيار المصري، فرد [عباس]: "لأنه ذكي. طلبت من اللجنة المركزية الاختيار ولم يتمكنوا من الاتفاق. ولذا اخترت الشخص الذكي بينهم".
لكن الرد جاء بعدم امتلاك الشيخ أية شعبية. فرد عباس: "أنا لا أملك أية شعبية"، وذلك حسبما أوضح المصري.
اتفق المصري مع هذا الرد الصريح. فبحسب استطلاعات الرأي على مدى أعوام كثيرة، فإن نسبة المستجيبين الذين يريدون استقالة عباس تتراوح بين 60% و80%.
لم يكن عباس مخطئاً في تعليقه على اللجنة المركزية؛ نظراً إلى أن الشخصيات ذات الثقل السياسي في صفوف فتح -ناصر القدوة (في المنفى)، وجبريل رجوب، ومحمود العالول، ومحمد دحلان (في المنفى)، يخوضون معاركهم الخاصة.
ترفض حماس، التي دُمرت قياداتها في الضفة الغربية بسبب الاعتقالات الليلية، المشاركة بأية وسيلةٍ في معركة الخلافة، مثلما هو الحال مع الفصائل الفلسطينية الأخرى. إذ تعده حماس والفصائل الأخرى أمراً يخص فتح وحدها.
قال المصري: "نصحتهم بأن يعملوا معاً. لكنهم لا يفعلون ذلك. أبو مازن ذكي في مسألة. إنه يعرف كيف يفرقهم. قال لأحد أعضاء اللجنة المركزية: "أنت خليفتي". يعتقد كل منهم أنه قادر على القيام بذلك. ثمة تعبير في اللغة العربية يقول: لأن الخيل قد قلت تحلت حمير الحي بالسرج الأنيق".
لم يتضح بعد ما إذا كان الشيخ يلائم وصف الحمار. يعتقد الشيخ أنه حصل على مكانة بارزة، بالنظر إلى سجنه لبعض الوقت في السجون الإسرائيلية. ثمة آخرون أقل اقتناعاً بذلك.
يعد الشيخ مسؤولاً عن العلاقات بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، ومن ثم فقد حظي بالفعل بالشرف المريب بأنه "متحدث بلسان الاحتلال". التعاون هي كلمة أخرى تُستخدم استخداماً متزايداً لوصف التعاون الأمني بين السلطة الفلسطينية وقوات الأمن الإسرائيلية.
ثمة اتفاقية غير مكتوبة بينه وبين رئيس جهاز المخابرات العامة اللواء ماجد فرج، وهو المسؤول الفلسطيني الآخر الوحيد الذي يُرجح أن يحظى بقبول من جانب إسرائيل وواشنطن.
ورغم سلطاته عندما كان رئيساً لجهاز الأمن الوقائي ورئيساً حالياً لجهاز المخابرات العامة، لم يُنتخب فرج ضمن أعضاء اللجنة المركزية لمنظمة التحرير الفلسطينية.
أجرى المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية استطلاعاً للرأي العام الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة في يونيو/حزيران، وكانت نسبة قبول الشيخ لخلافة عباس 3%، مع نسبة خطأ +/-3%.
قال المصري: "إنهما يحتاجان إلى بعضهما. أحدهما قناة إلى إسرائيل، والآخر قناة إلى الولايات المتحدة. حتى الآن، إسرائيل ليست مستعدة لوضع رهاناتها على ورقة واحدة".
غير أن الشيخ حريص على الظهور على رادار واشنطن. يستحضر الشيخ بالفعل شبح انهيار السلطة الفلسطينية واحتمالية وقوع اشتباكات بين عشائر حركة فتح المسلحة المتنافسة، لتكون حجة لاستمرار السلطة الفلسطينية.
قال الشيخ في حديث مع صحيفة The New York Times في يوليو/تموز: "إذا كنت سأفكك السلطة الفلسطينية، فما هو البديل؟ البديل هو العنف والفوضى وإراقة الدماء. أعرف تبعات ذلك القرار. أعرف أن الفلسطينيين سيدفعون الثمن".
ولكن إذا كانت اتفاقيات أوسلو ميتة والسلطة الفلسطينية تحتضر، فمن المؤكد أن الممارسة المتعلقة بانتخاب مرشحين، تكون وظيفتهم الأساسية فقط هي تسهيل الاحتلال الإسرائيلي بقدر الإمكان فحسب، ستكون بائدة هي الأخرى.
وهذا هو ما يعتقده كذلك مصطفى البرغوثي، قائد ومؤسس المبادرة الوطنية الفلسطينية، الذي حل في المركز الثاني خلف عباس في انتخابات السلطة الفلسطينية عام 2005.
قال البرغوثي: "إنها لحظة خطيرة للغاية وهؤلاء الذين يعتقدون أنهم يستطيعون فرض أشخاص بعينهم على إرادة الفلسطينيين سيتوجب عليهم أن يكونوا شديدي الحذر؛ لأن ما تبقى من شرعية واحترام سيزول إذا لم يكن لدينا عملية ديمقراطية واجبة وإجماع بين الفلسطينيين".
تكبل السلطة الفلسطينية ثلاث أزمات: الإخفاق في برنامجها لبناء الدولة، وعجزها عن تقديم استراتيجية بديلة، وخلق الانقسامات الداخلية وقتل الانتخابات.
قال البرغوثي: "لقد قتلوا العملية الديمقراطية الصغيرة التي لدينا عن طريق إلغاء الانتخابات. وبقيامهم بذلك، قضوا على حق الشعب في اختيار قادتهم، وسدوا الطريق تماماً أمام الجيل الأصغر. كيف يمكن لشاب في فلسطين أن يكون مؤثراً في السياسات؟ كيف؟".
في اليوم الذي سبق مقابلتنا مع المصري، اشتعلت الأمور في نابلس. اندلعت اشتباكات مسلحة بين المحتجين -كثير منهم من حركة فتح- وبين قوات السلطة الفلسطينية بعد اعتقال الناشط في حركة حماس مصعب اشتية، الذي تطارده إسرائيل.
قُتل الفلسطيني البالغ من العمر 53 عاماً، فراس يعيش، إثر إطلاق النار من جانب قوات السلطة الفلسطينية، وتعرض فلسطيني آخر لجروح خطيرة.
استهدف المسلحون مقارَّ السلطة الفلسطينية بالمنطقة بالرصاص احتجاجاً على سياسات السلطة. من أجل تهدئة الوضع في المدينة، قالت السلطة إنها كانت تحتجز اشتية لحمايته. ومنذ ذلك الحين بدأ إضراباً عن الطعام، ورفضت السلطة الفلسطينية مرتين زيارة محاميه.
قال المصري: "بدون دعم إسرائيل ستنهار السلطة الفلسطينية في غضون أشهر قليلة. ترى ما يحدث في نابلس، كل المناطق في نابلس كانت مشتعلة، ليس فقط في البلدة القديمة، بل في جميع المناطق".
وأوضح قائلاً: "يعني هذا أن الغالبية يدعمون المقاتلين الذين يقفون ضد السلطة الفلسطينية. إذا نكصت السلطة الفلسطينية عن وعودها بتحرير اشتية، ومعاملته بوصفه قضية وطنية وليس مجرماً، فأعتقد أن الحراك سيكون أكبر".
أضاف المصري: "مشكلتنا تكمن هنا. نحتاج إلى التغيير، لكن الظروف المطلوبة للتغيير ليست مواتية. إنني خائف من سيناريو الفوضى، لا من سيناريو التغيير".
المقاومة في مخيم جنين
تتصاعد وتيرة الغارات الإسرائيلية الليلية في مختلف أنحاء الضفة الغربية، وكذلك جميع بصمات الاحتلال في ظل تحالف نفتالي بينيت ويائير لابيد.
قارنت حركة "السلام الآن"، وهي مجموعة حقوقية إسرائيلية مؤيدة لحل الدولتين، ممارسات الاحتلال الإسرائيلي في ظل هذا التحالف بالممارسات خلال إدارة بنيامين نتنياهو من حيث التخطيط لبناء المستوطنات وطرح المناقصات والبدء بأعمال البناء والبؤر الاستيطانية الجديدة وعمليات الهدم والتدمير وهجمات المستوطنين وأعداد الضحايا الفلسطينيين.
جاءت جميع النسب مرتفعة. كانت هناك زيادة بنسبة 35% في عمليات هدم المنازل وزيادة بنسبة 62% في بدء أعمال البناء الجديدة وزيادة بنسبة 26% في خطط بناء وحدات سكنية في حين تصاعدت وتيرة عنف المستوطنين ضد الفلسطينيين بنسبة 45%.
وفقاً لبيانات الأمم المتحدة، قُتل ما لا يقل عن 85 فلسطينياً في الضفة الغربية بين بداية العام الجاري و11 سبتمبر/أيلول، مقارنةً بمتوسط سنوي بلغ 41 قتيلاً فلسطينياً في عهد نتنياهو، وقد ارتفع هذا الرقم بالفعل بمقدار ثلاثة أضعاف ليصبح عام 2022 أكثر الأعوام دموية في الضفة الغربية منذ أكثر من 10 سنوات.
يخفي لابيد وراء سُمعته على المسرح الدولي، بأنه السياسي المعتدل، موجة عنف لا هوادة فيها ضد المدنيين الفلسطينيين.
يموت كثيرون في حوادث إطلاق نار وتبقى التفاصيل الدقيقة لهذه الحوادث غامضة ولا تخضع لأي تحقيق مستقل.
في حادث وقع مؤخراً، لقي شابان فلسطينيان مصرعهما وأصيب آخر يوم الاثنين بعد أن فتحت القوات الإسرائيلية النار على سيارة بالقرب من مخيم "الجلزون" للاجئين الفلسطينيين شمالي رام الله.
أعلن الجيش الإسرائيلي أنه استطاع "تصفية" اثنين من "المشتبه بهم"، مدعياً أنهما "حاولا تنفيذ هجوم بالدهس ضد جنود جيش الدفاع الإسرائيلي".
ينتمي هذان القتيلان الفلسطينيان، باسل بصبوص وخالد الدباس، إلى مخيم الجلزون. لكن هيئة شؤون الأسرى التابعة للسلطة الفلسطينية قالت إنَّها زارت أحد المستشفيات في القدس ورأوا باسل بصبوص مصاباً ويتلقى العلاج.
توقفت السلطات الإسرائيلية منذ فترة طويلة عن تأكيد هويات القتلى والمصابين، ناهيك عن إعادة جثث الموتى إلى عائلاتهم لدفنها.
عَلِم يحيى الزبيدي من وسائل الإعلام الإسرائيلية خبر وفاة شقيقه، داود، متأثراً بجراحه في مستشفى حيفا. لكن إدارة المستشفى رفض تسليم الجثة.
شارك الزبيدي في الانتفاضة الفلسطينية الثانية، التي بدأت عام 2000، وقضى 16 عاماً في السجن بين عامي 2002 و2018. كان شقيقه زكريا واحداً من الأسرى الفلسطينيين الستة، الذين فروا من سجن جلبوع في سبتمبر/أيلول 2021 وأُلقي القبض عليهم جميعاً في وقتٍ ولاحق.
قال الزبيدي: "سنوات السجن لم تُغيّرني، لكني أفهم عدوي جيداً. السجن لم يثبط عزيمتنا قط. سَمّيت ابني أسامة على اسم صديق لي قتلته قوات الاحتلال. الولد الآخر اسمه محمد، والثالث داود، على اسم أخي".
المقاومة تنتقل بالفعل من جيلٍ إلى جيل.
كان مصعب اشتية، الناشط الحمساوي المعتقل في نابلس، مقرَّباً من إبراهيم النابلسي، القيادي البارز في كتائب شهداء الأقصى -الجناح العسكري لحركة "فتح" والذي قُتل برصاص القوات الإسرائيلية في أغسطس/آب.
إبراهيم النابلسي، الذي كان في أواخر سن المراهقة حين استشهد، هو نجل أحد كبار ضباط جهاز الأمن الوطني للسلطة الفلسطينية.
قال الوالد، النابلسي، إن "إبراهيم كان يطارد الجنود الإسرائيليين، وليس العكس. كلما سمع عن هجوم للجيش الإسرائيلي، كان أول مَن يخرج ويواجههم".
ترك الابن البالغ من العمر 18 عاماً رسالة مفادها أنه يريد لفَّ جسده بالعلم الفلسطيني بدلاً من علم الفصيل المنتمي له.
قال البرغوثي: "هذا في حد ذاته مؤشر مهم للغاية على وعيٍ جديد ينمو بين جيل الشباب الفلسطينيين".
حوَّلت لبنى العموري منزلها إلى ضريح لابنها المتوفى، جميل، وهو قيادي شاب في حركة الجهاد الإسلامي بمخيم جنين كان قد أُلقي القبض عليه في كمين، وهو في طريقه لحضور حفل زفاف أحد أصدقائه قبل عام.
أُصيب جميل برصاصة في ظهره أثناء محاولته الهرب، في حين قُتل اثنان من ضباط الأمن الفلسطيني في تبادل لإطلاق النار. تمزج لبنى العموري بين مشاعر الفخر بنجلها، الذي أشيد به باعتباره بطلاً، بآلام الحزن على فقدانه.
تنهمر الدموع من عيني لبنى بينما تتحدث عن ابنها قائلة: "في المدرسة، كان جميل يتوق إلى أن يكون جزءاً من المقاومة لكنني لم أسمح له بذلك. اشتريت له سيارة ليعمل عليها سائق سيارة أجرة، لكنه باع السيارة ليشتري سلاحاً نارياً، ثم بدأ ينفذ أعمال مقاومة بمفرده قبل أن يقرر الانتماء إلى حركة الجهاد الإسلامي".
وأضافت: "كان ولداً صالحاً. لطالما كان يعطي ما بحوزته من مال أو طعام للعائلات الأكثر فقراً. استشاط غضباً من أحداث القدس واقتحام باحات المسجد الأقصى. شاهد ما كان يحدث في الضفة الغربية ولم يستطع منع نفسه من المشاركة".
وتابعت: "لا يهدأ لنا بال أبداً في هذا المخيم. لا أحد يفكر في المستقبل. لديَّ ولدان آخران رأيَا ما حدث لشقيقهما وأنا خائفة عليهما. عندما أسمع طلقات نارية، يتجه الجميع إلى الخارج".
عندما سألت الزبيدي عما إذا كان يعتقد أنه سيرى نهاية الاحتلال أثناء حياته، أجاب بدون تردد: "نعم".
وأضاف: "الاحتلال في طريقه للزوال. تتوالى نكساته سنة تلو الأخرى. نحن مقاتلون شرفاء بينما هم يحاولون تغيير هوية الأرض، لأنهم يدركون أنها من حقنا. نحن أصحاب هذه الأرض".
أشار الزبيدي إلى بنايات في مخيم جنين مطلية باللون الأصفر أُعيد بناؤها من أنقاض معركة جنين عام 2002 عندما اجتاحت القوات الإسرائيلية المخيم مستخدمة الدبابات والقصف الجوي والمدفعي وواجهت مقاومة عنيفة، ما أسفر عن مقتل 23 جندياً إسرائيلياً واستشهاد ما بين 52 و54 فلسطينياً.
بينما نتحدث، انضم إلينا رجل، يُدعى محمد، يصف نفسه بأنه أحد الناجين من المعركة.
كان محمد صبياً في ذلك الوقت وموجوداً في المنزل في ذلك اليوم مع والدته ووالده. يتذكر أنَّ والدته كانت تخبز الخبز للمقاتلين في الشوارع بالخارج، ثم سمع دوي انفجار ورأى دخان كثيف يعبأ الغرفة. كانت والدته ملقاة فوق الخبز في حالة نزيف.
قال محمد: "نمت بجانبها. استدعينا سيارة إسعاف لكن الإسرائيليين منعوها من العبور. استيقظت في الصباح لأجد والدي يضع وشاحاً على جسد والدتي وقال لي "إنها نائمة وأنت معي الآن".
قال محمد إنه سمَّى ابنته، مريم، على اسم والدته.
ليس هناك أي وجود للسلطة الفلسطينية أو الاحتلال الإسرائيلي في مخيم جنين، لذا، فإن جميع الفصائل الفلسطينية المسلحة هي الممثلة للقانون داخل المخيم.
قال أبو أيمن (اسم مستعار)، وهو قائد حركة الجهاد الإسلامي في المخيم، إنَّ "جميع الفصائل في جنين على قلب رجلٍ واحد. لا يقبل أحد منَّا ما يفعله محمود عباس، لكننا بالكاد نقبل رجلاً مثل حسين الشيخ. نحن لا نعترف بالانتخابات أو البرلمان".
وأضاف: "كلنا متحدون هنا. إذا واجهنا أي مشكلة، فإنَّنا لا نتواصل مع السلطة الفلسطينية لتأتي وتساعدنا. لدينا كل ما نحتاجه، حتى المال".
وتابع: "نحترم جميعاً بعضنا البعض داخل المخيم، حتى الأطراف المختلفة. لا يمكننا العيش تحت الاحتلال إلى الأبد. سنواصل المقاومة. نشعر هنا بحريتنا، وهذا ما يريد جميع الفلسطينيين أن يشعروا به".
يدفع مخيم جنين ثمناً باهظاً مقابل هذه الحرية النسبية. يتعرَّض المخيم كل شهر لغارات دامية تشنها القوات الإسرائيلية. بعد أيام قليلة من لقائنا، نجا أبو أيمن بصعوبة من كمين نصبته له قوات الأمن الإسرائيلية في غابة صغيرة بالقرب من المخيم.
وقال: "أنا الآن على قائمة المطلوبين لدى إسرائيل".
من جانبه، قال الزبيدي: "إيماننا بكرامتنا مثل إيماننا بالله. ماذا احتاج في الحياة؟ أريد أن يشعر ابني بالأمان. ماذا تتوقع من هذا الشعب؟ نواجه الظلم والقمع ويريدون منَّا البقاء في منازلنا هادئين. ماذا تتوقع منَّا؟".
– هذا الموضوع مترجم عن موقع Middle East Eye البريطاني.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.