يعيش الأشخاص في معظم دول العالم حالة من القلق وعدم اليقين بشأن مستقبل الاقتصاد العالمي ويرجع السبب إلى استمرار الحرب الروسية الأوكرانية، وما أنتجته من ارتفاع في التضخم الذي بلغ مستويات لم يصل إليها منذ عشرات السنين، مما أدى إلى موجة من الارتفاعات في أسعار المواد الغذائية والسلع والخدمات والطاقة.
ومع قيام "الفيدرالي الأمريكي" وعدد من البنوك المركزية حول العالم برفع سعر الفائدة، من أجل كبح جماح التضخم وآثاره، تضررت الدول الناشئة ومنها معظم الدول العربية جراء هذه السياسات، وهو ما أدى إلى توجه الاقتصاد العالمي نحو الركود، ويتوقع الخبراء الاقتصاديون أن عام 2023 هو عام التضخم.
كل هذه التداعيات كان لها تأثير مباشر على حياة الأفراد، مع انخفاض قيمة الرواتب، وفقد قطاع كبير لوظائف، وبقاء قطاع آخر تحت تهديد فقدان وظائفهم ومصادر دخلهم، كما خسر معظم الناس جزءاً كبيراً من مدخراتهم مع ارتفاع مستوى التضخم وانخفاض قيمة العملات في معظم الدول، لا سيما في دولنا العربية.
وعلى الرغم من أن هذه الأزمة ليست من صُنع أيدينا ولسنا من تسبب في تفاقمها، ونجد طوال الوقت عدم قدرة أحد على شرح وتفسير ما حدث، أو التنبؤ بما سيحدث على وجه اليقين وما يجب علينا فعله، فإنها بشكل أو بآخر أصبحت أزمتنا ومطالبين بمواجهتها والتعامل معها، من أجل النجاة والخروج منها بأقل الخسائر الممكنة.
كما كشفت لنا الأزمة الاقتصادية الحالية أهمية الإدارة المالية الصحيحة، وضرورة التصرف بحكمة مع أموالنا، ولم يعد الأمر مجرد رفاهية، بل أصبح الأمر بالغ الخطورة، وشيئاً محورياً من أجل تفادي الوقوع في المصاعب المالية التي تؤثر علينا وتلعب دوراً في تحديد مستقبلنا ومصيرنا.
سيكولوجية المال
في كتاب "سيكولوجية المال" للكاتب مورجان هاوسل، ينطلق من قاعدة أساسية في النجاح المالي للأفراد، وهي أن النجاح المالي ليس له علاقة بتعليمك ومعرفتك، ولكن له علاقة أساسية بكيفية تصرفك وسلوكك الذي تتبعه، ويرى أن السلوك من الصعب تعليمه، ويدلل على ذلك بكثير من الأمثلة والقصص عن أشخاص أذكياء وعباقرة وقعوا في كارثة مالية بسبب فقدانهم السيطرة على عواطفهم، والعكس، إذ يمكن لأشخاص عاديين لا يتمتعون بتعليم عالٍ أو معرفة مالية، أن يكونوا أثرياء إذا كان لديهم قليل من المهارات السلوكية، التي ليست لها علاقة بمعايير الذكاء المعتمدة.
وأظن أن هذه الفكرة ليست بعيدة عن حياتنا، فمعظمنا نعرف أشخاصاً في دائرة الأقارب والمعارف، قد لا يحملون شهادات جامعية ولا أي تدريب أو خلفية مالية، وربما لم يكونوا في بداية حياتهم لديهم ثروة طائلة، ورغم ذلك استطاعوا بناء ثروة ضخمة، وبالتأكيد لدينا أمثلة للنقيض، ومن كانت لديهم ثروة كبيرة وسرعان ما تبددت.
وبحسب مورجان هاوسل، فإن هناك درساً يجب أن يتعلمه الجميع، وهو أن حصولنا على المال شيء، والاحتفاظ به شيء آخر، ويمكننا أن نكتشف بسهولةٍ أنهما مهارتان مختلفتان، إذ يتطلب الحصول على المال بذل الجهد في العمل أو الوظيفة والمحافظة على مكانتك مع السعي للترقي أو لزيادة مصادر دخلك، وإذا كنت تحصل على المال من خلال الاستثمار فإن الأمر يحتاج إلى الإدارة الجديدة والمخاطرة والتفاؤل.
أما الاحتفاظ بالأموال فيتطلب نقيض المخاطرة، أي التواضع والخوف من زوال ما حصلت عليه بسرعة، ويستدعي هذا حسن التدبير وعدم الوقوع في فخ الشراء والاستهلاك من أجل التباهي، والإنفاق بشكل يتجاوز إمكاناتنا المالية.
وفي ظل الأزمة الاقتصادية غير المسبوقة بالنسبة لمعظم الأجيال الشابة، والتي يبدو أنها مستمرة معنا مدة ليست بالقصيرة، فإن علينا التوقف عن هذه السلوكيات، ولا يمكننا أيضاً مواصلة الاعتماد على الطريقة السابقة التي كنا ندير بها حياتنا المالية، إذ الأمر يحتاج إلى إعادة التفكير في خياراتنا الحالية، وسُبل الإدارة المالية الصحيحة من أجل تخطي الأزمة وتفادي الوقوع في انتكاسات مالية.
توقَّف عن الإنفاق من أجل التفاخر
يعود جزء كبير من أسباب الفشل في إدارة أموالنا والأنفاق المرتفع إلى تصرفات تتعلق بأمور نفسية تدفعنا إلى الشراء والاستهلاك من أجل التباهي، ولأسباب متعلقة بنظرة المجتمع لنا أو بالطريقة التي نريدهم أن ينظروا بها إلينا، ومن الممكن أن ننفق كل ما نملكه ونقترض من أجل مجاراة أنماط استهلاكية لأشخاصٍ مستواهم المالي يفوق المستوى الذي نعيشه.
وينتج عن هذا السلوك الفقر والوقوع في كثير من المصاعب المالية، إضافة إلى عدم الرضا عن أنفسنا، وكثير من المتاعب والعثرات بسبب إنفاق أموالنا على شراء كثير من الأشياء التي لا تناسب أوضاعنا المالية.
بشكل عام يضع معظم الناس أنفسهم في مقارنة مع أشخاص من طبقة اجتماعية أعلى ويحاولون مجاراتهم في النمط الاستهلاكي المرتفع، لأسباب تعود أغلبها إلى احتياجهم النفسي بأن يشعروا بأنهم ينتمون إلى تلك الطبقة، أو أن يراهم الآخرون مع هذه الطبقة.
وفي أثناء ذلك ينفقون أموالهم بشكل يتجاوز إمكاناتهم المادية، دون التفكير في ضرورة التوقف والنظر إلى ما هم في مستواهم نفسه أو أقل منهم في الطبقة ويعيشون حياتهم بشكل طبيعي، لا يضطرون فيه إلى إنفاق كل دخلهم وربما اللجوء إلى الاقتراض من أجل التباهي والتفاخر، وتوهمهم بأن ما يفعلونه يجلب لهم الاحترام والإعجاب من الجميع.
وفي كتاب ""The Millionaire Next Door للكاتب الأمريكي توماس ستانلي، يرى أن حل هذه الظاهرة التي أطلق عليها مصطلح "الاستهلاك التفاخري"، يكمن في اللامبالاة الاجتماعية، فإذا كانت لدينا مستويات عالية من اللامبالاة الاجتماعية، نستطيع وقتها تجاهل الأنماط الاستهلاكية للأصدقاء والأقارب وزملائنا في العمل، وكل ما نراه من نمط حياة المشاهير والمؤثرين في منصات التواصل الاجتماعي.
ولعل ما ندركه متأخراً كما يقول مورجان هوسل، هو أن سقف المقارنة الاجتماعية مرتفع للغاية، ولا يمكن لأحد أن يطاله. أي إنها معركة لا يمكن كسبها أبداً، ولعل الطريقة الوحيدة للفوز هي ألا تقاتل في معركة المقارنة من البداية، وبعبارة آخرى: اعرف الاكتفاء المالي واقبل بما لديك حتى لو كان أقل مما يملكه من حولك.
وقديماً قال مثل شعبي مصري شهير يعرفه الجميع ويقدم الحل والنصح ببساطة الحكمة الشعبية، حين يقول: "عِش عيشة أهلك"، ولعله مثال بالغ التعبير عن هذه الظاهرة.
أنفِق على الضروريات فقط
عند التفكير في الكيفية التي ننفق بها أموالنا، سنجد أن معظم ما ننفقه يكون على أشياء متعلقة برغباتنا وليست احتياجات أساسية، ومن هنا يجب تحديد بوضوحٍ الفرق بين الحاجات الأساسية التي يتوقف عليها مسار حياتنا، من طعام ومسكن ومواصلات، والأشياء التي يمكن اعتبارها كماليات.
وبشكل عام، يحتاج الجميع إلى الأساسيات، وعندما تُغطى الأساسيات فإن هناك مستوى آخر من الأساسيات المريحة، ثم هناك الأساسيات التي هي مُريحة ومرفهة.
وإذا رجعنا بالذاكرة إلى ماضٍ ليس بالبعيد، وتذكرنا على سبيل المثال حياتنا قبل عشر سنوات، وكيف أن معظم الأشياء التي نملكها في الوقت الحالي لم تكن موجودة حينها، وكنا نعيش حياتنا بشكل طبيعي ولا نشعر بأنه ينقصنا شيء.
ولكن تغير العديد من الأمور، بسبب الضغوط الاجتماعية التي تدفعنا إليها الحياة المعاصرة، ومن جانبنا نندفع مُسرعين بدون أي مقاومة، ويأتي اندفاعنا لمواكبة أنماط استهلاكية لا تناسبنا، بسبب خوفنا من الشعور بالإحراج أو الظهور بمظهر البخل أو التزمت.
وما كان يعتبر من الكماليات أو الرفاهيات تحول إلى ضروريات أساسية، ومن خلال تأثيرات ما تبثه الإعلانات التي نراها في كل مكان، وما نشاهده على منصات التواصل الاجتماعي، اقتنعنا بأنه لا بد من إنفاق أموالنا من أجل اقتناء كل جديد يظهر؛ لكي ننعم بحياة أفضل وأكثر راحة.
لذا يصبح من غير المعقول في وسط هذه الأزمة الاقتصادية الضاغطة على الجميع من ارتفاع في مستويات التضخم وانخفاض قيمة الدخل، مواصلة هذه التصرفات، ولا بد من وقفة مع أنفسنا لتنظيم نفقاتنا، حتى تصبح مقتصرة على الحاجات الأساسية فقط، لأن الرغبات ليست لها حدود، وحتى نتفادى الوقوع في المصاعب التي قد تجعلنا نُعاني من أجل شراء الحاجات الأساسية.
ابدأ في الادخار
بعد التوقف عن الاستهلاك التفاخري واعتماد النفقات على الاحتياجات الأساسية بقدر ما نستطيع، تظهر هنا ضرورة الادخار؛ لكونه من الأشياء التي تحدد محور حياتنا، وما سنكون عليه في المستقبل.
ولست بحاجة إلى ثروة هائلة حتى تبدأ في الادخار، فعلى افتراض أنك في أسوأ الظروف لا تمتلك ثروة كبيرة أو مصدراً هائلاً للدخل، ودخلك الأساسي يعتمد فقط على راتبك، فعند التفكير في تخصيص نسبة صغيرة تتراوح بين 5 و10% من الدخل للادخار بشكل ثابت، على الرغم من أنك قد ترى المبلغ ضئيلاً، ولكن تخبرنا التجارب بأهمية البدء والاستمرار الذي يحولها لعادة ثابتة، ويشجعك بعد ذلك على زيادة المبلغ كلما استطاعت أو عندما يزداد الفائض، لذا من المؤكد أن النمو القليل في الادخار وقود للنمو المستقبلي، ويمكن أن تؤدي بداية صغيرة إلى نتائج استثنائية في المستقبل.
ويدخر معظم الناس المال لدفع مبلغ مقدم لشراء منزل أو سيارة جديدة، أو من أجل اقتناء أشياء أخرى مرتفعة التكلفة، لكن الادخار لا يتطلب شراء شيء محدد بعينه، ويمكنك الادخار من أجل الادخار فقط، وهذا ما يجب على الجميع فعله، الادخار لهدف معين قد يبدو شيئاً رائعاً، لكن ما نعيشه اليوم من صدمات اقتصادية متتالية يجعل اتخاذ الادخار وسيلة لازمة للتحوط ضد مفاجآت الحياة التي لا يمكن التنبؤ بها.
إدارتك للمال ترسم مستقبلك
يأتي النجاح المالي من خلال التدبر والكفاءة والادخار، والنتيجة التي ستصل إليها من نجاحك في بناء ثروة صغيرة أو ما يُطلق عليه ميزانية الطوارئ، من شأنها أن تمنحك حماية من الأزمات والمتغيرات الاقتصادية المختلفة، كما أنها تمنحك مرونة وقدرة أكبر على التحكم في وقتك وحريتك، إذ يعني قدر صغير من الثروة القدرة على أخذ إجازة بضعة أيام عندما تكون مريضاً، والتعامل مع حالة طبية طارئة.
ويعني أيضاً القدرة على الانتظار للحصول على وظيفة جيدة بعد الاستغناء عنك، بدلاً من الاضطرار إلى قبول أول وظيفة تقابلك، ويعني عدم اضطرارك إلى تحمُّل وظيفة سيئة لعلمك بأن حياتك لن تُدمَّر إذا احتجت بعض الوقت للحصول على وظيفة أفضل. وغير ذلك من الأمور التي تلعب فيها الإدارة المالية الرشيدة دوراً هاماً ومصيرياً، وبالتالي تؤثر في تحديد ما سيكون عليه مستقبلنا.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.