من بداية تعلّمنا كتابة موضوعات الإنشاء، وبدأ معها الكتابة عن الصداقة ومفرداتها، وكيف نجعل الكلام يزين ورقة الاختبار، ولكن هذا لا يمنع أن الشعور كان صادقاً، خاصةً أننا كنا أطفالاً نجهل بعض البغض الذي تحتويه بعض الأفئدة اليوم.
يقول الرافعي، رحمة الله عليه:
"الصديق هو الذي إذا حضر رأيت كيف تظهر لك نفسك لتتأمل فيها، وإذا غاب أحسست أن جزءاً منك ليس فيك، فسائرك يحنّ إليك، فإذا أصبح من ماضيك بعد أن كان من حاضرك، وإذا تحول عنك ليصلك بغير المحدود كما وصلك بالمحدود، وإذا مات.. يومئذ لا تقول: إنه مات لك ميت، بل مات فيك ميت، ذلك هو الصديق".
هذا الخليل في نظر الرافعي، فانظر لرفيقك إن لم ترَ منه هذا الود فاعلم أنه لم يكن بينكما حبل الوداد.
أتذكر أنا ورفيقاتي حين نجتمع معاً في وسط الضحكات والمناقشات التي تبدو معهن مثيرة للتفكير والبحث أشعر بأنني كظمآن أرتوي بعسل سائغ زُلال، هن اللاتي يأخذنني للعالم الذي أود السفر إليه بين الحديث عن الكتب، وما بها جيد محتوى ومشكلاتنا وكيفية التهكم الذي نواجهه بها والحلول الساخرة المقدمة، وإن كان بعضها واقعياً فجميعنا يحب الكتابة والقراءة، جميعنا يلاقي في الأخريات نقاطه التائهة ونفسه التي يود ملاقاتها في نفسه.
مرهقة تلك الصداقات القائمة على التباعد الفكري، فتكون أنت هذا الذي يفكر بمنطقية ليست بمفرطة، ولكن لحد المعقول، وأنيس دربك عاطفي ساذج يبالي بجميع من حوله، فيفقد الاستمتاع بروح المراحل التي تعيشونها وتفقد معه شغفك الذي تحب إشباعه في كل تجربة معاً.
يقول علي بن أبي طالب، رضي الله عنه:
وَإِذا الصديقُ أسىَ عليكَ بجهلِه ** فاصِفح لأجلِ الودِ ليس لأجلِه
كَم عالمٍ متفضلٍ، قد سَبه ** مَن لا يساوي غُرزة في نعلِه
البحرُ تعلو فوقه جيفُ الفلا ** والدر مطمور بأسفلِ رملِه
لو أساء الرفيق بجهالةٍ تغافل للحفاظ على قربه، فالزمان في أكثر الأحيان مفرق، فاغفل عن العيوب والزلات تقفل معابر الفرقة، إن سنحت الفرصة للوشاة، وأعني بخليل لسر العمر حافظاً، ولا تشبه وفاءه بالكلاب، وإن فاق الوفاء حد الولاء.
بعض الأصدقاء مع أول النزاعات يبدأ من الخروج من حياة رفيقه، ولا يكتفي بالخروج الصامت بل يضيق عليه عيشه ويفسد صفوه ويذيع عيبه، ينسى طيب خلقه وحسن عمله، ويترك للوشاية مجالاً لتأل في أسس طيب الوصال، فما هذا بصديق، ولا يملك المعنى، ولا يعرف مرادف الإعانة طوال الطريق.
يذهلني حقاً جيلنا الذي يوشك أن يفقد تلك المعاني، خاصة نحن البنات وسطحيتنا الزائدة جداً، وإن كان الجيل الذي يلينا أكثر افتقاداً للمعنى، وغياب الأرواح والقلوب، فلم تعد تملك التآلف النفسي والعاطفي كالأمس.
إنما أضحت تدرك المعنى في التنزه والتقاط الصور في المطاعم و"الكافيهات"، أضحت الأنانية في الشعور واللامبالاة، وارتباط المصالح هي التي تربط الأفراد ببعضهم.
قديماً كان الأصدقاء يزوجون أبناءهم لبعض لتكون الصداقة عائلية فتصبح عائلة واحدة ونسباً قوياً؛ لتكون علاقة أخوّة من دون النسب، ليكون أخاً بالنسب والدم والقرب، ليحيا معه أصغر تفاصيله، فإن أصابه مكروه كان الآخر درع الحماية له يدفع عنه الأذى، يفقد روحه ولا يفقد أنيس دربه، وإن كدرت المسافات صفو المحبة.
الرفقة هي ألا تسعى لتكون ذلك المثالي الذي يتمنى الكثير التعاملَ معه، إنما هي أن تكون كما أنت، وإن كنت معيوباً فقط هو الذي يحترمك كما أنت دون تقليل أو إهانة، فرُب صديق أجالسه من حين لآخر ساعة خير من أخ لا يعينني على نفسي مرة في الدهر.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.