مشاهدات خيالية على مستوى العالم، حققها مسلسل نتفليكس القصير الجديد DAHMER: Monster: The Jeffrey Dahmer Story، والذي يتناول القصة الحقيقية لواحدٍ من أشهر القتلة المتسلسلين في أمريكا، حيث دارت جرائمه في الفترة من عام 1978 حتى عام 1991 وقتل خلالها 17 شخصاً، وهو Jeffrey Dahmer جيفري دامر.
وصل المسلسل لقائمة Top 10 في 92 دولة حول العالم، وذلك بعد صدوره بعدة أيام فقط، ليُصبح في هذه اللحظة المسلسل الخامس ضمن قائمة أعلى المسلسلات مشاهدة على الإطلاق لدى شبكة نتفليكس، وذلك بعد عرضه بأسبوعٍ واحدٍ فقط.
المسألة هنا ليست نجاحاً طبيعياً لمسلسلٍ من فئة مسلسلات الجريمة، وهي الفئة المحببة لعددٍ كبيرٍ من المُشاهدين، لأسبابٍ بسيطة أغلبنا يعرفها، إنّما الأمر هنا يتعلق أكثر بهؤلاء من ارتبط اسمهم لدينا بالرعب والفزع الحقيقي، وذلك لكونهم الفصيل الأكثر شراً على الإطلاق من بين البشر.. وهم القتلة المتسلسلون.
ما عليك إلا أن تضع واحداً منهم في أي عملٍ درامي أو وثائقي حتى، على شاشة السينما أو على أي منصة كانت، وسترى بعينك كمّ الإقبال الجماهيري والمشاهدات على ذلك العمل.
ألا يبدو هذا الأمر غريباً بعض الشيء؟
وهل يُمكن اعتبار هذه النوعية من المشاهدين، وأنا واحدة منهم بالمناسبة، مُختلّين بشكلٍ ما؟
بالتأكيد هناك أكثر من سببٍ واحدِ، وراء هذه الرغبة العارمة لدى الكثيرين في مشاهدة هذه الأعمال الدموية، المُقززة، والعنيفة بشكلٍ غير محتمل في الأغلب، سبب يُفسّر كل تلك اللهفة التي أشعر بها أنا وممن يُشبهني، حينما نُشاهد عملاً يتعلق بحياة السفاحين والقتلة والمختلّين حول العالم، والأهم، سبب يُمكّنُنا من تحمل كل تلك الجرعات العالية من الشر والأذى وسفك الدماء، بدون أن تترك أثراً سلبياً على أي واحدٍ منّا.
أو ربما تركت أثراً سيئاً بالفعل..
ونحن لا ندري..
إذاً.. ما سر جاذبية أفلام ومسلسلات القتلة المتسلسلين؟
الإجابة السهلة والسريعة لمثل هذا السؤال، هي للدرجة العالية من الغموض والإثارة والتشويق التي تحتويها فئة الجريمة بشكلٍ عام.
ولكن حينما يتعلق الأمر بالقتلة المتسلسلين تحديداً، فالأسباب تًصبح أكثر دقة..
أسباب تتعلق بالقتلة المتسلسلين أنفسهم، وأسباب أخرى تتعلق بما يقوم به القاتل المتسلسل تجاه ضحيته، وتأثير ذلك على أدمغتنا ومشاعرنا، ونظرتنا للحياة بشكلٍ عام.
القاتل المتسلسل: حب من نوع خاص
بدا الأمر غريباً ومُخيفاً في نفس الوقت حينما اكتشفت أنّني بشكلٍ ما، أنجذب لهؤلاء ممن يرتجف جسدي لذكرهم، القتلة المتسلسلين..
ولكن ما طمأنّني حقاً أنني وجدت نفسي لست الشخص الوحيد الذي يشعر بذلك الشيء..
يُفسّر هذا الأمر خبير البحث الجنائي الشهير د. سكوت بون Dr. Scott Bonn في كتابٍ كامل بعنوان Why We Love Serial Killers: The Curious Appeal of the World's Most Savage Murderers أو لماذا نحب القتلة المتسلسلين: الجاذبية الغامضة لأكثر القتلة توحشاً في العالم.
يقول د. سكوت في كتابه:
"القتلة المُتسلسلون يجذبون النّاس، كما تفعل حوادث الطرق وكوارث الطبيعة، لا يُريد الناس أن يُشاهدوها، ولكنهم في نفس الوقت، لا يستطيعون النظر بعيداً عنها".
أرى أنّ الكثير من القتلة المتسلسلين هم أقرب لنجوم السينما، تُحيط بهم هالة غريبة من العظمة، وتفسير ذلك يعود لسببين، أولهما: لأنهم شديدو الذكاء، وأنا أتحدث هنا عن مستوى عالٍ جداً من الذكاء، وهو ما يُجبرنا بشكلٍ ما على احترام ذلك الدماغ المريض حد الجنون، والذكي حد العبقرية.
وثانيهما: لأنّ للشر قوة عارمة حقاً، وتكمن قوتهم في أنّهم كبشر، قادرون على فعل أشياء يرتجف الواحد منّا لمجرد التفكير فيها.
نحن -البشر الطبيعيين- أضعف كثيراً منهم، هشاشتنا النفسية قادرة على أن تقتلنا نحن، قبل أن نتمكن من إيذاء شخصٍ بريءٍ مثلاً. أمّا هم، فليس لديهم أي وازعٍ ديني أو أخلاقي يمنعهم من فعل أي شيءٍ يُريدونه في هذا العالم، مما يُزيدهم مهابة أكثر وأكثر..
هم حالة خاصة جداً من البشر، نكرههم بالطبع، ولكنّا ننجذب إليهم بشدة في نفس الوقت، لأنّهم قادرون على فعل ما لا نستطيع فعله، حتى وإن أردنا ذلك.
لأننا نُريد أن نخاف..
نعم، نحن البشر نحتاج لأن نشعر بالخوف، حتى يدخل جسدنا في حالة تُعرف باسم adrenaline rush أو جريان الأدرينالين، وهو الهرمون الذي يُفرز في حالة شعور الإنسان بالخطر أو بالخوف بشكلٍ عام.
حينما يجري الأدرينالين في الدم، تزداد ضربات القلب، ويرتفع ضغط الدم، مُتدفقاً بصورة أسرع للمخ والعضلات، وهو ما يُعطي للإنسان في حالة الخطر قوة غير عادية، وقدرات عظيمة أخرى لم يكن يتخيل أنه يمتلكها.
للأدرينالين قوة جبارة، وتأثير ساحر حد الإدمان على الجسد، وأشكال هذا الإدمان كثيرة، بدايةً من إدمان ألعاب الفيديو العنيفة، وركوب ألعاب الملاهي الخطيرة، وكثرة مشاهدة أفلام الرعب، وحتى القفز الحر من على بعد مئات الأمتار عن الأرض، من أجل الإحساس بذلك الشعور اللذيذ، الذي يُشعرنا بأنّنا أحياء حقاً..
نعم نحن نحب أن نتعرض للخطر أحياناً، بشرطٍ واحدٍ، أن نخرج منه سالمين..
حينما نشاهد القاتل المتسلسل على الشاشة، وهو يهمّ بالإمساك بضحيته، نتوتر حقاً، ونخاف مما سيحدث لاحقاً، ويصل الأمر لذروته في المشاهد العنيفة والشديدة القسوة، ولكننا نشعر بالإثارة في نفس الوقت، هذه الإثارة تأتي لأننا نُدرك أنّنا لسنا في مواجهة خطرٍ حقيقي، وإنّما جسدنا لا يعرف هذا، ومن هنا يأتي الشعور بالنشوة.
نشوة جريان الأدرينالين التي تنبعث بشكلٍ رائع، حينما نجد أنفسنا في لحظةٍ نتماهى مع ضحية لقاتل متسلسل مجنون، ولكنّ في اللحظة التي تليها نفلت نحن منه، ليُمسك بشخصٍ آخر مسكين.
وها نحن هنا نُشاهد كل هذه الأحداث المُروعة، ونحن على الأريكة الناعمة، مُستمتعين بأكل الفشار، شاعرين براحة وسكينة وأمان.
لأننا نُريد أن نفهم..
نحن البشر فضوليون للغاية، ربما أكثر من القطط، هذه حقيقة..
تستفزنا قصص الجرائم بالذات عن غيرها من القصص، لأن للجريمة تأثيراً عظيماً على النفس الإنسانية، وخاصة حينما تكون هذه الجريمة حقيقية ووقعت بالفعل، وهو ما يُعرف فنياً باسم True Crime.
يصل فضولنا لذروته، حينما نُتابع عملاً ينتمي لفئة الـ True Crime، وخاصة إذا كان هناك في القصة قاتلاً متسلسلاً، وذلك لأننا نُريد أن نعرف الكثير من الأشياء.. من ضمنها:
لماذا صار هذا القاتل قاتلاً؟ كيف كانت نشأته؟ كيف يختار ضحاياه؟ ولماذا هم دوناً عن غيرهم؟ والتفصيلة الأكثر شناعة، ماذا يفعل بهم تحديداً؟
والسؤال الأهم على رأسهم، كيف يستطيع أي إنسان أن يتحرر من إنسانيته لهذه الدرجة من البشاعة، ليُسخّر حياته لهدفٍ واحد، وهو أن يقتل ويقتل ويقتل، بلا هدفٍ سوى القتل ذاته؟
إنّه ذلك الفضول بشأن السلوك الإنساني وقدرات العقل البشري، ما يجعلنا لا نكتفي من دراسة هؤلاء القتلة المتسلسلين عن طريق تلك الأعمال التي تجعلنا نُشاهدهم عن قرب، ونرى العالم بعيونهم، وتُدخلنا لعقلهم المريض فنعرف كيف يفكرون..
هي تجربة مثيرة للاهتمام فعلاً، تجعلنا وكأنّنا نتلصص على حياتهم، ونعرف أدق وأقذر أسرارهم.
وكأننا نرى العالم بعين سفّاحٍ، فكيف يكون شكل هذا العالم يا ترى؟
أسبابٌ أخرى مُحتملة.. لمحبي مشاهدة أعمال القتلة والسفاحين
هناك من يُشاهدون هذه النوعية من الأعمال هرباً من حياتهم السيئة أو الغارقة في الملل، هم يُريدون عملاً يترك فيهم تأثيراً قوياً بحق، كي يستطيع أن يُلهيهم ولو لبعض الوقت عمّا يعانون منه في حياتهم الحقيقية.
وهناك من هم يُشاهدونها كنوعٍ من الوقاية، لحماية أنفسهم من الوقوع في محل الضحية، عن طريق تجنب الأخطاء التي قامت الضحية بارتكابها.
وهناك من يُشاهدونها أيضاً؛ لأنّها تخبرهم الكثير عن الجزء المُظلم في حياة كل واحدٍ من هؤلاء القتلة على حدة، وحينها يسألون أنفسهم ذلك السؤال الذي لا إجابة له:
هل يُمكنني أن أصير إلى ما صار إليه هذا السفّاح، إن تعرضت لكل ما تعرّض إليه في حياته قبل أن يصير قاتلاً؟ هم يدرسون أنفسهم جنباً إلى جنب مع شخصية القاتل، ليُعيدوا اكتشاف جوهرهم الحقيقي من خلال ما شاهدوه، وما هم قادرون على فعله..
الأمر أشبه بلعبة خيالية مُخيفة يلعبها المشاهد مع نفسه، وعنوانها: (ماذا لو؟).
التأثير النفسي لإدمان مشاهدة أعمال الجريمة بشكلٍ عام
مُعادلة سهلة: (الكثير من أفلام ومسلسلات الجريمة وعلى رأسهم ما يخص القتلة المتسلسلين= الكثير من الأدرينالين= الكثير من القلق والأفكار السيئة.)
"نحن أُمّة من مدمني أعمال الجرائم الحقيقية"
جملة صادمة بعض الشيء قالها أحد مدرسي كلية الحقوق في إحدى الجامعات بأمريكا، وهي تُنذر بنتيجة سيئة في الغالب للإدمان على مشاهدة كل ما يخص أعمال الـ True Crime.
صحيح أنّها تجعل الواحد منّا مُنتبهاً وأكثر حذراً لكل ما يجري حوله بالتأكيد، ولكن القلق هنا هو أن يتحول ذلك الحذر لشكٍ دائم في كل شيءٍ، وفي أي شخصٍ كان.
يبدأ الأمر بتوترٍ مُزمن، يُخلّف بعده خوفاً مزمناً بالتبعية، مع شعورٍ عام بعدم الأمان. يسوء الأمر لو كل هذه المشاعر السلبية ظهرت في صورة رغبة الفرد في العزلة، ولزوم المنزل، والشك في نوايا الآخرين تجاهه أو تجاه من حوله.
ويمكننا تحديد ما إذا كانت لأعمال القتلة المتسلسلين أو أعمال الجريمة بشكلٍ عام، تأثير سيئ حقاً علينا، باختبارٍ بسيط للغاية..
يقول الخبراء إنّه حينما يجد الواحد منّا نفسه مُتلبساً في التفكير، فيما إذا كان جاره يُخفي جُثثاً مُتحللة بداخل منزله أم لا، أو راودته أسئلة تقترب من هذا النوع من الأفكار، فإنّ عليه أن يأخذ راحةً اجباريةً من مشاهدة هذه الأعمال فوراً.
وهو الشيء الذي لم أصل إليه حمداً لله..
بعد..
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.