مُحملًا بأثقال الحرب وأشباح الدمار مر تشرشل بالقاهرة في طريق عودته من المغرب شتاء العام ١٩٤١م، متنكرًا تحت اسم الكومودور فرانكلاند، وفي حضرة الملك فاروق جلس إلى مائدة عامرة مع قائد قواته في مصر، كانت الزيارة مفاجئة وأعطت انطباعًا لتشرشل أنه لربما اخترق حُجب الزمن أو العوالم الأثيرية، حيث بدت مشاهداته السريعة في القاهرة غرائبية وسط عالم تعصف به حرب عالمية لم يعرف التاريخ لها مثيلًا، أضواء القاهرة لا تنطفئ، مدينة صاخبة تنفتح في المساء كصدفة ضمت في جوفها بذخ ليالي ألف ليلة وليلة كما وصف السادات مرة عيشة إيبلر وساندي اللذين سكنا عوامة العجوزة وجاورا حكمت فهمي.
لندن 1940.. ضباب مأساوي
قبل ذلك بعام وخلف باب محطة داون ستريت تحت الأرض في ملاجئ مُجهزة اختبأ تشرشل من ضربات الجو الألمانية، عندما كانت حملة القصف الألمانية "The Blitz" في ذروتها، ومن ثم كانت لندن كلها تحت الحصار والقصف، وتعرضت لأصعب أزمة في تاريخها، نفد مخزون السلع الاستراتيجية وتعرضت المدينة وغيرها من مدن المملكة لشح كبير في الموارد، وتم وضع خطط تقشف واسعة النطاق، بل وانتشرت الكتب التي أعدت لشرح وصفات غذائية لزمن الحرب، تقترح صناعة وجبات بديلة بالموارد المتاحة، لعل تلك الصورة ضرورية لنفهم الخلفية المضنية التي قدم منها تشرشل إلى مائدة الملك فاروق العامرة.
هل سمعتم بالحرب سيدي؟!
وبالرجوع إلى المائدة التي أقامها الملك فاروق على شرف تشرشل، فإن الأخير أعرب عن امتنانه لكنه لم يستطع أن يمنع نفسه من إلقاء تندر قد يبدو أنه ماكر النية، إذ توجه بالسؤال إلى الملك فاروق عما إذا كان قد سمع عن قيام الحرب العالمية أم لا! ثم انحرفت زاوية كلامه ليقول، لكن أليس من الأولى أن أوجه هذا السؤال لقائد قواتي العزيز، ولعل سؤال تشرشل لقائد قواته كان يحمل مرارة خاصة، إذ يصعب عليه أن يرى ضباطه يتهادون بعلب السيجار فيما كان يظن نفسه ملك الدنيا حين استطاع أن يوفر ثلاثة منها في درج مكتبه ببيته في لندن، لكن هذا الأمر لا يجب أن يذهب بنا إلى تصور خاطئ عن حال القاهرة العام في تلك الفترة، فقبل الحرب وأثنائها وبعدها ظلت طبقات القاهرة الدنيا تعاني وللاحتلال الإنجليزي البغيض مساهمة في تلك المعاناة، وإنما انحصرت تلك المفارقة في الطبقات العليا والتي ارتبطت مصالحها بمصالح الاحتلال، وتلك الانتعاشة التي شهدتها القاهرة لم تكن ببعيدة عن رغبة البريطانيين الذين كانوا يرغبون في الحفاظ على مصالحهم الاقتصادية والتجارية في مستعمراتهم البعيدة في مصر والهند وسيرلانكا في ظل أزمة الحرب التي ألمت بديارهم، وأما عزل الجنود والضباط الإنجليز عن حالة الديار المتأزمة وهم ينعمون في رفاهية الحياة القاهرية قد تم وفق أرتيميس كوبر بخطة مُحكمة من قيادة القوات البريطانية في مصر، فقد منعوا بث أخبار الأزمة الاقتصادية والتقشف في لندن ومارسوا رقابة على الرسائل القادمة من هناك، وذلك للحفاظ على الروح المعنوية للجنود، ففيما كان تقنين التموين قد سرى مفعوله لمدة تسعة أشهر في إنجلترا كانت المحلات والبقالات اليونانية بالقاهرة حاشدة بأنواع الزبد والسكر والبيض والكيروسين، وكانت الأسواق عامرة بأصناف الفاكهة والخضروات المرصوصة في سلال مستديرة.
كان الضباط الإنجليز يعيشون في القاهرة في عالم منفصل عن واقع العالم، لدرجة أنهم عزفوا عن مفارقتها، كونها كانت كالحلم الجميل، ولمواجهة حالة الكسل التي خلقها هذا الترف الذي عاش فيه الضباط اقترح ووتر فيلد إذاعة بيانات عن الحياة القاسية في لندن وقصص شجاعة أهلها ضد آلة الحرب الألمانية، لكن البريجادير شيرر رفض اقتراحات فيلد لأنها وفقًا لرؤيته ستكشف عن المعاناة والضعف البريطانيين أمام المصريين الذين ينتظرون تلك الفرصة لتقوى مقاومتهم للاحتلال.
فاروق.. ملك البذخ والمفارقات
عُرف عن الملك فاروق البذخ الشديد، وقد عاشت الطبقات العليا في عهده نوعًا من الترف الذي لا حدود له، كان فاروق منذ صغره مُدللًا وقد نشأ وسط مجموعة من الطهاة الشبان الإيطاليين الذين قدموا مع والده من إيطاليا، وتأثر بانفتاحهم على الحياة وملذاتها، وتسرب هذا الترف إلى العائلة الملكية، لدرجة أن الأمير عمر طوسون وكان رجلًا محافظًا لم يستطع أن يمنع الحياة المترفة على النمط الغربي من أن تدخل إلى بيته ويتأثر بها ولداه، لدرجة أنهما أدخلا الويسكي في زجاجات مياه إيفان لدرجة أثارت استغرابه من كمية المياه التي يستهلكها ولداه كل يوم، انتقلت عدوى الترف إلى الطبقات العليا والمتوسطة العليا، وانتشرت حفلات الرقص وسهرات القصور في ليل القاهرة الغاسق، ترافق هذا مع انتعاشة اقتصادية حققها ملاك الأراضي والتجار من القطن وتجارة الذهب والعقارات.
بورتريه صاخب للقاهرة 40
كانت القاهرة في الأربعينيات مدينة تفاعلات لا مثيل لها، تفاعلات متقاطعة تمر عبر كل المجالات، في الدين، والسياسة، والمجتمع، والثقافة والآداب والفنون، وبنظرة إليها في ذلك الوقت تستطيع أن ترى ليلها وقد تفتح على لوحة متدرجة في التشاكل والتناقض، جماعات ووفود تحتل صفحة ذلك الليل، حفلات رقص وشرب على مقربة من ندوات أدب وصالونات ثقافية ولا تبعد عنهما كثيرا اجتماعات المناضلين والساسة، تتصل فيها عوالم السياسة والمال والأدب والسينما والمجتمع على نحو عجيب، ولا نبالغ إذا قلنا أن القاهرة استمدت مسيرتها حتى الآن من رصيد تلك الفترة.
البذخ الذي انتشر في القاهرة في الأربعينيات جعلها محط اهتمام من الباحثين عن الفرص من العالم أجمع، كانت القاهرة هي البؤرة التي جذبت اهتمام هؤلاء جميعًا، فحولوها إلى محط رحالهم، عالم ممتد وشبكة معقدة سرت في ليل القاهرة الصاخب، من المغامرين والشعراء والجواسيس وأبطال المعارك وأصحاب الفضائح، وتجار قادمين من كل صوب، يتجارون في كل شيء، وهكذا توالدت الحكايات في "القاهرة 40".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.