عندما وصل بوتين إلى سدة الحكم خلفاً للرئيس يلتسين فيما يعرف "بالألفية الروسية" وهي صفقة قوامها الخروج الآمن ليلتسن وعدم محاسبته على فساده، مقابل صعود بوتين للحكم بدعم من الشيوعيين وطبقة المثقفين والبيروقراطيين الروس؛ وضع بوتين خطة بعيدة المدى تتمثل في سياسة فرض الاحترام واستراتيجية استعادة الدولة بشكلها السياسي والقيمي والجغرافي، وفعّل من خلال بعض المنظّرين الجغرافيين حوله، الأفكار القديمة التي تُعلي من شأن "الأوراسية" واعتمادها كمنهج محافظ يحمي القيم الروسية من التغريب، ونهج توسعي يبحث عن استعادة مجد مفقود في شكل بوتيني جديد، على غرار روسيا القيصرية وروسيا السوفييتية، والآن يحاول بوتين رسم ملامح حقبة تاريخية جديدة تحمل اسم "روسيا البوتينية" ولو بالقوة.
وهذا ما تجلّى في خطابه الأخير حيث قال: "إن القوة هي التي ستُحدد شكل سياسة العالم الحالي" فلا سياسة ولا دبلوماسية عند بوتين عندما يتعلق الأمر بالطموح الإمبراطوري، فكانت أوكرانيا هى المفتاح لبداية فتح القوس في وجه الغرب، فلا يختلف بوتين عن غيره من التوسعيين أمثال هتلر، فكلاهما مرضى بهوس التوسع إما للثأر من خصوم تسببوا في غرق بلادهم في بؤر الخسارة والتفتت، أو للتفوق العرقي حسب أيديولوجياتهما السياسية والسردية التاريخية، والذرائع حاضرة، أوكرانيا قال عنها بوتين في خطابه في فبراير/شباط الماضي: "أوكرانيا ليست مجرد دولة مجاورة لنا، فهي جزء لا يتجزأ من تاريخنا وثقافتنا وفضائنا المعنوي، تربطنا معها صلة الدم وروابط عائلية؛ وقد تأسست بالكامل من قبل روسيا حتى قبل ثورة البلاشفة الشيوعيين" .
ويروى أنه في أحد الاجتماعات مع قادة عسكريين وجغرافيين روس أشار أحدهم باتجاه خريطة روسيا وقال: حدود روسيا تبدأ من هنا، فرد بوتين بقوله: وهل لروسيا حدود؟
وهنا بُهت الجمع وصمتوا! فضحك بوتين وقال: "إني أمزح".
هي ليست مزحة بالتأكيد بقدر ما هي حقيقة عقائدية راسخة في العقلية البوتينية والحنين إلى مجد الماضي.
فاليوم ليس مثل الأمس بعد أن انفرط العقد حبة وراء حبة، وكلمة السر هو ألكسندر دوغين وفلسفة الحضارة الأرضية مقابل الحضارة الأطلسية المتمثلة في دول الغرب، فوفقاً لدوغين عراب بوتين الجيوسياسي، ومحيي التراث الأوراسي القديم، فإن لروسيا حضارة أرضية بقائها الوجودي يتعلق بالحفاظ على قيمها الثقافية وتقاليدها الدينية والاجتماعية، وهذا يشكل تهديداً خطيراً للحضارات الأطلسية، وهذه الحضارة الأطلسية لن تكف عن مهاجمة الحضارات الأرضية، وبالتالي فإن الصراع الروسي الغربي لن ينتهي حتى لو تغيرت سياسية بوتين ومال جانباً إلى الغرب.
لذلك كان من اللافت في خطاب بوتين الأخير حديثه حول المثلية الجنسية وحرية التحول الجنسي ورفضه تلك الأفكار التى يرى أن الغرب يريد تصديرها إلى بلاده للقضاء على قيمها وتقاليدها التي هي عماد وجودها وفقاً لفلسفة دوغين آنفة الذكر، حتى إن من الأسباب التي جعلت أدب الكاتب الروسي دوستويفسكي هو المفضل لدى بوتين قوله: "إن دوستويفسكي يدعو في كتاباته إلى نهج أوراسي لا إلحاد فيه ولا فجور" ومن هنا أعاد للكاتب الراحل قيمته وأمر بإعادة طبع كل أعماله والاحتفاء سنوياً بذكرى وفاته، إذاً الأمر بالنسبة له عقيدة تصوغ سياساته العامة وسر حراكه الخارجي.
أرى أن بوتين عزم على الزحف نحو الماضي ولن يعود، أو كما يُقال "صعد أعلى الشجرة وأخذ السلم معه" مستفيداً من الرفض الصامت لبعض الدول تجاه الممارسات الأمريكية الغربية وسياسة القطب الواحد، وأولاها الصين الصاعدة بقوة، والهند المتحفظة دوماً، وتركيا الواعدة، لذلك فإن السياقات في صالح بوتين، أقله على المدى المتوسط، والمتضرر الوحيد هو الغرب المريض الذي لن يسلم من شرر الحرب المتطاير من التدخل الروسي في أوكرانيا سياسياً واقتصادياً، والأقوياء مهما كانت خصوماتهم ففي النهاية قد يتفقون ويقسمون مواقع النفوذ والتنازلات المتبادلة، أقصد هنا الولايات المتحدة وروسيا، فمن مصلحة أمريكا أن تظل أوروبا تحت خط النار خاصة في ظل صعود اتجاه يميني متطرف يريد مزيداً لأوروبا في العالم بعيداً عن الهيمنة الأمريكية، لتقوم هي بين الفينة والأخرى بدور رجل الإطفاء مع فرض أجندة جديدة وهيمنة أكثر، مثلما فعلت في الحرب العالمية الثانية، يعني المتغطي بأمريكا عريان، وللمرة الثانية أقول: الكبار لا يتقاتلون على أراضيهم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.