في الأسابيع القليلة الماضية أوقفت مصر استيراد السلع والخدمات، بعد أن أوقفت الاعتمادات المستندية، عشية إقالة رئيس البنك المركزي، وعندئذ تكدست السلع في الموانئ المصرية، وباتت الأزمة قريبة جداً من الاستفحال، بعد أن بدأت بعض السلع تشح في الأسواق (البن مثلاً). أتبعت مصر فيما يخص استيراد السلع والخدمات الأكثر أهمية بقاء نظام مستندات التحصيل، وهو النظام القديم الذي كان معمولاً به قبل نظام الاعتمادات المستندية.
بالطبع الخشية كانت من إخراج الدولة للدولار ومنحه للمستوردين للمضاربة به، بدلاً من استخدامه لإغراض الاستيراد، لذلك قيدت السلطة كثيراً من عمليات إخراجه للناس، وبالطبع ونتيجة أن الاقتصاد المصري يدار أكثر من 70% منه عبر القطاع الخاص، كان للدولة الوقفة الحالية للحد من الاستيراد الترفي، أو منح الدولار للناس خشية العبث به والمضاربة فيه في السوق السوداء.
من هنا كان تعهد الرئيس عبد الفتاح السيسي يوم 27 سبتمبر الماضي بتوفير الدولار لإنهاء تكدس الموانئ المصرية بالبضائع، وذلك خلال شهرين. هنا يصبح السؤال كيف؟ وهل نحن مقبلون على اتخاذ سياسات اقتصادية قادرة وحدها على تنمية مصادر العملة الأجنبية؟ بعبارة أخرى، هل تلك الإجراءات ستغني عن فتح المجال العام لتحسين الأوضاع الاقتصادية؟
بداية فإن الدولة تسعى في الوقت الراهن إلى إعادة التفاوض مع صندوق النقد الدولي، وذلك عبر مفاوضات أوقفت منذ 3 أشهر، بسبب اعتراض الصندوق على وجود ازدواج في موازنة الدولة، واعتراضها على الإجراءات المطالبة بالمزيد من تعويم الجنيه، بما يرفع من سعر الدولار، ويزيد من أسعار السلع والخدمات كنتيجة منطقة لخفض قيمة الجنيه، وكل ما سبق يزيد من معدلات الفقر، ويرفع بشكل شكلي وليس مضموني من قيمة الصادرات المصرية.
وعلى الرغم من أن الاستدانة هي الأسلوب الذي يحمّل الأجيال القادمة أعباء اقتصادية كبيرة، فقد اتبعت الدولة هذا الطريق السهل بالاعتماد على القروض من صندوق النقد عدة مرات، وقد اعتبر صندوق النقد أن الحكومة بحاجة إلى تحقيق إصلاحات هيكلية، واتخاذ مزيد من الخطوات لتعزيز تطوير القطاع الخاص وتحسين الحوكمة وتقليص دور الدولة، ووقف برامج القروض المدعومة من البنك المركزي، وربما تقييد منظومة دعم الخبز، وذلك مقابل منح القرض، لدعم الاقتصاد المتضرر من تداعيات الحرب في أوكرانيا.
مقابل ذلك كله سعت الدولة منذ عدة سنوات ولا تزال إلى تيسير استقبال الاستثمارات الأجنبية، باعتبار تلك الاستثمارات الحلقة المفقودة لجلب الدولار، وسط المصادر الأخرى للنقد الأجنبي. فتحويلات المصريين بالخارج تتنامى وتسير بشكل تلقائي. والصادرات المصرية تعتمد وحسب على النفط وبعض المواد الخام والمنتجات الزراعية بشكل رئيسي. من هنا أصدرت الدولة عدة حوافز للاستثمار الأجنبي، سعياً لبناء عديد المشروعات التي تسهم في ضخ العملة إلى شرايين الاقتصاد المصري، وتحسن أوضاع العمالة والإنتاج والتشغيل، واتبعت أيضاً أسلوباً آخر مهماً، وهو تجويد أوضاع الطرق، ما أدى إلى احتلال مصر مكانة كبيرة للغاية في السلم الدولي المخصص لجودة الطرق والمواصلات في السنوات الثلاث السابقة. جدير بالذكر أن الطرق والمواصلات واحدة من أهم السبل الكفيلة بجذب الاستثمارات الأجنبية.
لكن هل كافة تلك الإجراءات كافية لإصلاح الأوضاع الاقتصادية؟ بعبارة أخرى: هل اتخاذ قرارات اقتصادية مع بقاء المجال العام موصداً كفيل بتحقيق طفرة اقتصادية؟
واقع الأمر أن كافة القرارات الاقتصادية المتخذة لم ولن تغني أبداً عن فتح المجال العام، وتحقيق مُناخ أرحب من حرية الرأي والتعبير، وكلها حزمة متكاملة لتحقيق الرفاهة الاقتصادية والاجتماعية على حد سواء.
بعبارة أخرى، لم تؤد كافة الخطوات المتصلة بالتعاون مع الخارج من أجل ترشيد الأداء خاصة من زاوية جلب الاستثمارات الأجنبية (باستثناء الاستثمارات الخليجية التي أتت إلى مصر لأسباب بعضها سياسي يتصل بدعم نظام يونيو 2013)، بنتيجتها المرجوة على الإطلاق. ولعل السبب الرئيس وراء ذلك يكمن في جمود المجال العام في مصر بعد ما يقرب من عقد من أحداث يونيو 2013، التي أطاحت بحكم جماعة الإخوان المسلمين التي ارتكبت الفظائع خلال حكمها للبلاد.
فوجود قضاء مستقل، لا زال محل سجال كثير، بسبب ما أتى به دستور 2012 المعدل في المرة الثانية عام 2019، حيث ذكر "يعين رئيس الجمهورية رؤساء الجهات والهيئات القضائية من بين أقدم سبعة من نوابهم.." (مادة 185 من الدستور). وهذا الأمر يشكك الكثير من المستثمرين، لأن بعضهم يعتبر أن تلك التعيينات تخلط السلطتين التنفيذية بالقضائية، ومن ثم تجعل جدية الاحتكام للقضاء حال حدوث خلاف بين المستثمر الأجنبي والإدارة المصرية محل شك من قبل المستثمر. نفس الأمر يتعلق بعدم سن قانون منع انتداب القضاة لغير الهيئات القضائية الملزم سنة وفق مادة 239 من الدستور، وهو قانون تسعى السلطة بعدم سنّه لإفساد دولاب العدالة، عبر ندب القضاة في جهات حكومية بل وسياسية.
وتعقب المجتمع المدني من خلال القيود المفروضة عليه وعلى تمويله يعد هو الآخر محل تشكك المستثمرين، فهذا المجتمع يتحمل أكثر من ثلث الأعباء الاجتماعية التي تتحملها الدولة بغرض رفع الأعباء عن كاهل المحتاجين، ورغم ذلك يواجه المجتمع المدني بقيود كثيرة، أحد أبرزها تعقب تمويله، وملاحقة هذا التمويل من الجهات الأمنية، التي تفردت وحدها بوصف بعض منظمات المجتمع المدني بالوطنية وبعضها الآخر بغير الوطنية.
وغياب المجالس المحلية، وهي الجهة التي كفل الدستور وجودها بقانون الإدارة المحلية الواجب سنه بحد أقصى 5 سنوات من نفاذ الدستور، أي في يناير 2019، ولم يسن إلى اليوم (انظر المادة 242 من الدستور). والمعروف أن المجالس المحلية هي الدرج الأول في سلم الديمقراطية، وأداة التنمية الاقتصادية والتنمية الاجتماعية في أي نظام سياسي، فكيف لمستثمر أجنبي أن يستثمر أمواله بغيابها؟
ووجود سلطة تشريعية تمريرية، بحكم قانون انتخابات القوائم المطلقة المفضي لتعيين النواب أو تزكيتهم، بدلاً من انتخابهم، وهذا النظام الانتخابي الصوري لا مثيل له إلا في 3 دول فقط حول العالم. وهو نظام يفرخ برلماناً منفذاً لكل ما يطلب منه حكومياً، ويفرخ رقابة مكبلة على السلطة التنفيذية.
ووجود إعلام غير مستقل خاصة بعد بيع القنوات الفضائية المصرية غير الرسمية لعديد الجهات الرسمية تحت أسماء مستعارة، ما جعل هذا الإعلام لا يتسم بالحرية، وهو أمر أيضاً لا يشجع على مناخ الاستثمار الأجنبي.
غاية القول أن الرشادة الاقتصادية لا تتطلب فقط حزمة قرارات اقتصادية مدروسة، بل وكذلك فتح المجال العام، ولعل في دعوة سبع منظمات، بما في ذلك الأورو-متوسطية للحقوق في 4 أبريل الماضي، صندوق النقد الدولي لاستخدام مفاوضات القروض مع مصر لتعزيز الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، خير دليل على أهمية مناخ حرية الرأي والتعبير.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.