لربما ارتبط وجودنا على الأرض بالحيرة، حيرة قُدر لها أن تكون أبدية لبني الإنسان في أزمان الحداثة. تدور الحيرة المعاصرة، كما تدور أمخاخ البشر، حول أسئلة الأمن والاستقرار.
هذه الحيرة، المصحوبة بالاضطراب والقلق، والتي ترنو الأمن مبررة في مجتمع أطلق عليه عالم الاجتماع الألماني أولريخ بيك، "مجتمع الخطر"، نظراً إلى ما يهدّد الإنسان من مخاطر جمّة، كالكوارث الطبيعية مثل "تسونامي"، والكوارث الناجمة عن حماقات بشرية كالتسربات النووية أو استخدام الأسلحة النووية، أو مصائب الأنظمة السياسية التي تنزع صوب الاستبداد والظلم والجور.
مجتمع الخطر
"مجتمع الخطر" الذي يختلف شكله من مكان لآخر لكن يبقى جوهره المشوب بالقلق والخوف ثابت، يولّد لدى الإنسان ميلاً إلى لتفكير في مصيره، ويدفعه إلى ابتكار وسائل وأنظمة حكم تحميه من المخاطر، وتقلل من حدة التهديدات المصاحبة للحياة اليومية. لكن في لحظتنا السياسية الآنية التي يعتليها الخطاب "النيوليبرالي"، لم يعد مقبولاً طرح أية أفكار أو مقترحات، وإن كانت عقلانية قابلة للتحقق، تدعو وتبشر بعالم أكثر عدالة. صار يُنظر إلى مثل هذه الأفكار على أنها هي "الخطر"- بمعنى أولريخ بيك- أو "تخريبية". وإن وقع تعاطف معها، فإنه لحظي سريع الخفوت، يتم التراجع عنه؛ خوفاً من الفوضى، إذ يتم تصوير الحياة خارج النظام "النيوليبرالي" على أنها غابة شيوعية، أو خراب مطلق.
غياب السرديات الكبرى
في نسختها الأكثر قسوة، والأشد تذبذباً على مستوى ضمان رفاهية الأغلبية العظمى من البشر، مقابل رفاهية يصعب على مثلي تصورها يتنعم فيها النبلاء والملوك القدامى والجدد للعالم، أتعجب لماذا يصبر الناس على الجوع والحرمان، وهم يرون أين ولمن تذهب فوائض الإنتاج وأين ومن يتنعمون بثروات الكوكب وحدهم.
في ظل غياب السرديات الكبرى التي تعطي العالم مذاقاً مختلفاً، غير مذاق الطعام المقدم في مقاطع إنستغرام المصوّرة، وطغيان الفردانية وسيادة حالة اللايقين، يصبح المواطن الذي يرفض تقبُّل التفاوت المادي الصارخ بين البشر والدول في جودة الحياة، على أنّه أمر طبيعي، يصبح "راديكالياً خطراً" يجب السيطرة عليه.
الحقيقة أن هؤلاء قلةٌ اليوم، حيث تسري مشاعر التفهم والرحمة في اتجاه واحد، من قاع المجتمع حيث الفقراء إلى قمته حيث الملوك.
لذلك، لم يشعر المواطن البريطاني بغصة شديدة من حكومته، عندما قرأ في الصحف المحلية شعارات تطالبه بالتقشف مثل "إما الطعام وإما التدفئة"، بينما تنفق الحكومة أكثر من 10 ملايين دولار لوداع ملكة طاعنة في السن، غير التكاليف الباهظة التي دفعها الاقتصاد البريطاني بسبب فرض حالة الحداد وإيقاف العمل بالعديد من الأسواق. فبرغم عدم تأكيد الأرقام الرسمية لجنازة الملكة حتى الآن، فإن بعض التقديرات الأولية تشير إلى أن التكلفة الإجمالية للجنازة، جنباً إلى جنب مع التتويج القادم للملك تشارلز، وعطلات الموظفين، وتكلفة الاضطرار إلى تبديل تصميم العملة الرسمية بتصميم جديد يحمل صورة الملك تشارلز تقترب من 3 مليارات دولار.
لا تمطر سماء لندن نقوداً كما تعلم، لذا سيدفع دافعو الضرائب البريطانيون فاتورة تلك المهرجانات الجليلة المليئة بالفخامة والتي بلغت ذروتها في جنازة يوم الإثنين الماضي، وهي ثلاثة مراسم متقنة انتهت بدفن الملكة في قلعة "وندسور"، مع حضور المئات من قادة العالم، وطابور من رعايا الملكة بطول أميال ينتظرون بصبرٍ فرصة لمشاهدتها وهي مستلقية في نعشها.
تم تأمين مهرجان وداع أطول ملوك بريطانيا حكماً بأكثر من 10 آلاف ضابط شرطة و1500 جندي بالجيش وآلاف الحراس والمتطوعين للجنازة وحدها، فضلاً عن وحدة من النخبة البريطانية للخدمات الجوية الخاصة على أهبة الاستعداد في حالة وقوع هجمات إرهابية.
بالتوازي مع هذا الحدث العالمي الذي يقدر عدد مشاهداته بـ4.1 مليار حول العالم، كان وما زال يقع على رؤوس البريطانيين مصائب جديدة، لم ير الإعلام أنها تستحق التغطية الإعلامية ذاتها التي منحها للملكة المتوفية طبيعياً.
أظهر استطلاع رأي أجري مؤخراً في بريطانيا، أن ما لا يقل عن 5.6 مليون شخص أجبروا على التخلي عن وجبة طعام واحدة على الأقل في الأشهر الثلاثة الماضية، وباع ما يقرب من 8 ملايين متعلقات شخصية لتغطية تكاليف المعيشة المتضخمة أخيراً.
بالطبع لا أقول إن وداع الملكة بالشكل الذي تم هو سبب موجة الإفقار الحالية في بريطانيا، لكن هذا المستوى من الإنفاق والبذخ الذي يرقى لمستوى السفه، يتناقض مع الأزمة الاقتصادية التي أفقرت قطاعات عديدة من البريطانيين في الأشهر الأخيرة، ويتناقض مع دعوات وسائل الإعلام للتقشف.
إذ تواجه البلاد بالفعل معدل تضخم يبلغ 8.6% في مؤشر أسعار المستهلك، ولا تمتلك الحكومة سلاحاً سرياً لهزيمة التضخم.
كما لا يبدو أن رئيسة الحكومة الجديدة، ليز تراس، تميل إلى تخفيف وطأة الأزمة الاقتصادية عن شعب المملكة، فعلى غرار "تاتشر" خلال حقبة الثمانينيات، تتبع ليز أجندة نيوليبرالية ترفض التدخل الحكومي لضبط الأسواق والأسعار، ولن تتدخل لخفض أسعار الطاقة أو مساعدة الأُسر الأكثر احتياجاً، ولن ترفع مستوى الإنفاق الاجتماعي. كما لا يبشر برنامجها الاقتصادي إلا بمزيد من التقشف بجانب فرض قيود أشد على حق الإضراب، لمواجهة الإضرابات العمالية المتلاحقة التي شهدتها البلاد مؤخراً.
كما لو أن قرون الحداثة والتحديث قد حُذفت فجأةً، كيف نصدّق أن كل تلك اللاعقلانية في سلوك الدولة الحديثة ومجتمعها تقع على رؤوس العباد، بعد أن مرّت على البشرية عواصف التنوير والتحديث، وطافت دعوات منظريها العالم الحر.
البشر ليسوا أبرياء من ذلك، لا يزال النظام الملكي يحظى بشعبية كبيرة بين البريطانيين، حيث أظهر الاستطلاع الأخير الذي أجرته مؤسسة "Yougov" أن 68% لديهم رأي إيجابي حول المؤسسة الملكية.
دُفنت الملكة ولم يدفن عالمها
دفنت الملكة ولم يدفن عالمها، لم يعد يوجد تصور عادل للمواطنة، ورفع عن كاهل الدولة مسؤولياتها الاجتماعية، وترك الإنسان للسوق يلتهمه على مهل، بينما تضمد "الميديا" جراحه ليكمل السوق التهامه، وباتت الدعوة لعالم أكثر عدالة ضرباً من الجنون أو الطيبة البليدة. هذه الهشاشة في العلاقة بين الدولة والمواطن نتاج ما اعترى الإنسانية من "سيولة" في الألفية الثالثة، هذا المصطلح الذي اجترحه عالم الاجتماع البولندي زيغمونت باومان لوصف زمننا وما يتصف به من ارتكاس حضاري.
ببساطة ورشاقة يصور باومان كل سمات اللاعقلانية السائدة، وغياب السرديات الكبرى على أنها مأزق الحداثة، التي نقلت إنسان عصر التنوير من صلابة العقلانية في مراحلها الأولى، إلى سيولة التعايش مع الواقع كما هو. فقد شدد على أن الإفراط في الحداثة استطاع تغيير مقومات وقيم العيش الإنساني، وبذلك تمت إعادة صياغة الزمان والمكان والتفاعلات البشرية لتصبح أكثر اقتراناً مع السيولة الرأسمالية.
الحداثة في بدايتها تولت تحرير الأفراد من اللايقين واستبداد القديم والتقاليد، ورسمت حدوداً عقلانية واضحة إلى حدٍّ ما بين السلطة والأفراد. لكن أثبتت جنازة الملكة أن القديم لم ينتهِ ولا الحديث واضح ومستمر، ففي ظل التوحش الرأسمالي يفتقر البشر إلى تصور واضح عن حقوقهم يجعلهم عاجزين حتى عن السعي لإنشاء عالم أكثر عدلاً ورشاداً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.