لا شك في أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سياسي محنك، يتصف بالدهاء والقدرة على قراءة واستشراف متغيرات السياسة الدولية وأوضاع "الجيوبوليتيك"، بفضل التجربة الطويلة التي اكتسبها منذ أن كان موظفاً لدى الاستخبارات السوفييتية في ألمانيا الشرقية قبل سقوط حائط برلين. غير أن التطورات والمستجدات الحاصلة في حلبة الصراع الأوكراني تشي بأنه ربما أخطأ في تقدير حساباته، وابتلع الطُّعم الأمريكي الذي رُمي إليه، من خلال تحويل الحرب الأوكرانية إلى ساحة صراع بالوكالة لاستنزاف مقدرات وموارد روسيا، وإضعافها حتى تتفرغ الولايات المتحدة الأمريكية لمواجهة التنين الصيني، الذي يرنو إلى إزاحة أمريكا من موقع زعامة النظام الدولي.
والحال أن ثمة مؤشرات عديدة تدفع باتجاه ترجيح فرضية وقوع روسيا ضحية لحرب الاستنزاف الأمريكية. فبعد مرور نحو سبعة أشهر من اندلاع الصراع العنيف في أوكرانيا (وهي مدة كافية لتجميع المعطيات، والوقوف على بعض النتائج، والتكهن بالمآلات المحتملة)، تبدو روسيا عاجزة عن تحقيق أي مكسب استراتيجي قياساً للأهداف التي سطَّرتها في عمليتها العسكرية، أو غزوها لأوكرانيا إذا ما احتكمنا إلى معجم دوائر السياسة والإعلام في الغرب.
فحتى النجاحات المحدودة التي أحرزتها أضحت مهددة وعرضة للتبدد والضياع، بفعل الهجوم المضاد الواسع الذي يشنه حالياً الجيش الأوكراني، مستفيداً من الدعم العسكري الغربي السخي بالعتاد والأسلحة لا سيما الأمريكي منه، على عدة مناطق كخيرسون وخاركيف، حيث نجح الأوكرانيون في استعادة مجموعة من البلدات التي سيطر عليها الروس. هذا دون إغفال مؤشرات أخرى تفصح عن اهتزاز الموقف القتالي للروس، من قبيل إقالة بوتين لجنرالات بارزين، على رأسهم ديمتري بولغاكوف نائب وزير الدفاع المكلف بإدارة العمليات اللوجستية المتعثرة للجيش الروسي في أوكرانيا. وتعبير الرئيس الشيشاني قديروف عن استيائه من الأداء القتالي للجنود الروس.
وهكذا، يمكن اعتبار أمريكا الرابح الأكبر مما يجري حالياً في أوكرانيا، إذ قطعت شوطاً كبيراً في تحقيق جملة من الرهانات الاستراتيجية، لعل من أهمها استهداف مصادر الطاقة الروسية، في ضوء توجه الاتحاد الأوروبي الذي يعتبر المستورد الأساسي للغاز الروسي، للتخلي عن الطاقة الروسية، وإبدالها بخيارات طاقوية أخرى من بينها الغاز الأمريكي المسال، على الرغم من حقيقة أن أوروبا ستتضرر أيضاً على المدى القريب مع اقتراب فصل الشتاء، لكن روسيا قد تتضرر على المديَين المتوسط والبعيد، بسبب فقدان الزبون الأوروبي، الذي لا يضاهي من حيث الموارد المالية التي يضخها في الاقتصاد الروسي البدائل الأخرى (كالصين التي برغم أنها ضاعفت استيرادها للغاز الروسي، فإنه توجد مشاكل متعلقة بتكاليف الشحن والتوصيل).
هذا فضلاً عن الرهان الآخر المتمثل في إعادة لملمة صفوف المعسكر الغربي وإعادة الاعتبار لحلف الناتو (الذي يعد تحالفاً أيديولوجياً في المقام الأول، ينبني على نزعة مركزية غربية شوفينية ومعادية للمنظومات القيمية الأخرى، الرافضة لهيمنة الغرب)، فضلاً عن تكريس تبعية أوروبا لأمريكا بعد ظهور مؤشرات سابقة على شرخ جدي في العلاقة بين الطرفين، خاصة في حقبة دونالد ترامب الانعزالية، مما يصب في صالح توحيد رؤى وتوجهات دول الغرب لمواجهة الخصوم الاستراتيجيين (الصين على وجه الخصوص).
إجمالاً، وعلى الرغم من رفضنا واستهجاننا الصريح للسياسات الأمريكية العدائية إزاء منطقتنا، وما ألحقته من دمار وفوضى في عدد من الأقطار العربية، فإنه لا يسعنا إلا الإقرار بحذق السياسة الخارجية الأمريكية المبنية على العقيدة البراغماتية وبُعد نظرها، فالاعتبارات الأخلاقية ليس لها وجود في عالم المصالح والحسابات الجيوسياسية، كما أن تلك السياسات الخارجية لا تُبنى من فراغ، وليست ناجمة عن نزوات فردية متقلبة، بل هي نتاج عملية تفكير جماعي من المؤسسات الفاعلة ومراكز الدراسات والفكر، ومن هنا ضرورة الاستثمار في البحث العلمي وبناء الإنسان، إذا ما أردنا شق طريقنا بنجاح لمنافسة الأمم المتقدمة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.