لطالما كانت كرة القدم باعتبارها اللعبة الأكثر شعبية في العالم محط استغلال وتغذية للمصالح السياسية، مثلها مثل التجارية والاقتصادية، ولم يكن الناس يتوقعون قبل قرن من الزمن أن تصبح لعبة من الجلد المنفوخ بتلك الأهمية التي أضحت عليها اليوم؛ لدرجة أنها باتت معياراً للنجاح الرياضي وحسن الحوكمة ومقياساً للوطنية والخيانة، والمحرك الأساسي لمشاعر القومية في كثير من الدول وأضحت استثماراً عظيماً للأنظمة الحاكمة في بلدان العالم الثالث التي تراها كنزاً وشماعة في آن واحد، تتباهى به حين النجاح وتعلق عليها الأعذار حين الفشل لتصبح بالضبط رأسمالاً مثالياً يلبي ما تريده النخب الحاكمة في البلدان العاشقة للساحرة المستديرة.
حين فاز المنتخب الإيطالي بكأس العالم سنتي 1934 و1938 إبان الحقبة الفاشية، لم يتردد موسوليني آنذاك في تفويت فرصة كهذه للتسويق لمشروعه القومي واعتبار ذلك ثمرة نجاح حقيقي للرياضة وللسياسة العامة للحزب الفاشي من جهة، ومن أخرى محاولة الزج بالجماهير في أعقاب الفرحة الكروية بعيداً عن الوضع الأمني والحقوقي العام آنذاك في إيطاليا، قبل أن يدخل معركة الحرب العالمية ويعود منها خاسراً، لقد كان المنتخب الإيطالي إذاً خادماً ومنوماً في نفس الوقت، وكانت نتائجه عظيمة مع نظام شمولي متعصب أجاد استغلال ذلك.
تماماً كما فعل الديكتاتور الإسباني فرانكو حين استحوذ على فريق ريال مدريد إبان الخمسينيات ومنحه ثلاث كؤوس أوروبية للأندية مكّنته من فك العزلة الأوروبية التي كان يعاني منها نظامه المتهالك آنذاك وكانت تلك بمثابة قبلة الحياة بالنسبة له.
الحقيقة أن الأمثلة على تقاطع كرة القدم مع السياسة متعددة، ولطالما كانت أبعادها مختلفة حسب طبيعة الأنظمة الحاكمة والأهداف المرجوة، وحسب تأثير اللعبة وشعبيتها وعلاقة الجماهير بها، إنه أشبه بزواج المصلحة الذي يدعي فيه طرف واحد أنه محب للطرف الآخر. ولا يقتصر هذا الاستغلال على الأنظمة المستبدة فقط ولكن حتى الديمقراطية منها، ولا يشذ النظام الجزائري عن هذه القاعدة خصوصاً لمكانة اللعبة المستديرة في البلاد والعشق الشعبي اللامتناهي لها، فالظروف إذاً مهيأة لزواج رسمي علني بين الكرة والسلطة في الجزائر خصوصاً في العقد الأخير الفائت.
يستعد المنتخب الجزائري- على غير ما كان متوقعاً- لمباراتين وديتين بدل كأس العالم قطر 2022، ولا حديث يدور في الشارع الجزائري هذه الأيام إلا عن مستقبل المدرب جمال بلماضي وقائمته التي لم تحمل جديداً يذكر، هذا على الرغم من تزامن هذا مع الدخول الاجتماعي وارتفاع أسعار الأدوات والكتب المدرسية وانهيار القدرة الشرائية وارتفاع التضخم ونسب البطالة والأوضاع الاقتصادية غير المبشرة، هذا الوضع القائم لا يخدم نظرياً أي طرف عدا السلطة الحاكمة التي يهمها صرف الشعب النظر للمشاكل الحاصلة داخلياً، وتتبع عورات وتصريحات المدرب الوطني ولاعبيه منذ صدمة مباراة السد أمام الكاميرون، ولربما أن جمال بلماضي وأشباله قد أضحوا عملياً يخدمون السلطة الحاكمة ربما أكثر من أي شيء آخر دون إدراك منهم لذلك.
رغم أن النظام الجزائري كان ذا باع طويل في استغلال كرة القدم على المستويين العربي والإفريقي منذ ميلاده الأعسر سنة 1965 بعد الانقلاب الشهير على الرئيس بن بلة أثناء مباراة المنتخب الوطني أمام البرازيل لأسباب اجتماعية ورياضية تحوزها الحالة الجزائرية المتفردة في هذا الجانب، إلا أن هذا الاستغلال لم يبلغ أقصاه كما بلغه في العقد الأخير بعد تأهل المنتخب الوطني لمرتين متتاليتين كانتا فرصة للرئيس السابق بوتفليقة لإنقاذ شعبيته المتهالكة إبان مرضه وتواريه عن الأنظار، فلم يتوان آنذاك في دفع تكاليف آلاف المناصرين عشية أم درمان سنة 2009، وإصراره على استقبال المنتخب العائد من الدور الثاني في مونديال البرازيل سنة 2014 رغم عدم قدرته على الكلام في ذلك الوقت.
وبدخول مرحلة الحراك الشعبي 22 فبراير/شباط 2019، تعاظم الاهتمام الرسمي في الجزائر بالمنتخب الوطني، خصوصاً منذ تولي جمال بلماضي العارضة الفنية وحالة الركود الذي أصاب النخبة الوطنية والتي كسرها بعد أن فاز المنتخب بكأس إفريقيا في صيف 2019، وقد ساهمت هذه العودة القوية في تخفيف حدة التضييق الحاصل على السلطة الانتقالية التي كانت بصدد عبور عنق الزجاجة أمام ثورة شعبية جامحة كادت أن تعصف بها أمام ارتباك داخلي وخارجي عانت منه آنذاك، إضافة إلى حالة اليأس التي خيمت على الأوساط الشعبية التي كانت بحاجة لفرحة وطنية مشابهة.
وهكذا منح جمال بلماضي طوق النجاة للنظام بعد أن كاد يغرق في بحر الحراك الشعبي، وقد استغله النظام كما يجب وكافأ بلماضي ولاعبيه باستقبال رسمي عظيم وتهليل إعلامي لا مثيل له. ومن حظ السلطة أن ديناميكية الثورة قد بدأت في الانحسار قبل أن تكمل جائحة كورونا ما بقي منها في خريف العام ذاته.
لقد وجدت السلطة الجزائرية في بلماضي ضالتها رغم أنها عادة لا توفر الجو الملائم لممارسة الكفاءة على مستويات عدة، لكنها ما برحت تدعم الناخب الوطني في سبيل مواصلة نجاحاته من أجل مواصلة توجيه الرأي العام الذي كان قد ابتعد عن كرة القدم لفترة تزامنت مع حالة من اليقظة السياسية للجماهير أربكت بعض الشيء الأوساط الحاكمة، وقد واصل المنتخب الوطني حقاً نتائجه المميزة بتسجيل رقم قياسي إفريقي وعالمي في سلسلة اللاخسارة. ثم أعقبه بفوزه بكأس العرب في الدوحة والتي كانت مشحونة جداً في الداخل الجزائري بسبب المقابلات التي حملت حساسية سياسية مفرطة أمام الجارين التونسي والمغربي، وأضحت الآلة الإعلامية لا تتكلم إلا عن بلماضي وأشباله ولا تفوت الرئاسة وقيادة الأركان العسكرية في كل مرة تهنئة المنتخب الوطني، ومنح كل الصلاحيات لجمال بلماضي من توفير حماية إعلامية وتغاضي عن تصريحاته الفاضحة للمسؤولين المحليين عن حالة الملاعب والمنشآت الرياضية ثم ضمانات على أعلى مستوى في الدولة، انتهت بتغيير الاتحادية الوطنية للعبة.
ولربما قد ساهم هذا في خلق ضغوط متزايدة على النخبة الوطنية جعلتها تحت الأضواء، وحُمِلَ المنتخب ما لا يستطيع عليه صبراً بعد أن أصبح مطلب استقرار النتائج تحدياً صعباً مع مرور الوقت.
حين بدأت كأس إفريقيا 2022 لم يكن أشد المتشائمين يتوقع خروج المنتخب الوطني من الدور الأول بنقطة واحدة، رغم أن مؤشرات تراجع المستوى الفني للمنتخب كانت قد بدت تظهر منذ مرحلة تصفيات المونديال وبداية الغرور الذي كان يلمسه الجميع من جمال بلماضي، وبدأ الشك يتسرب إلى الأوساط الشعبية والرسمية حول قدرة الناخب الوطني بتزمته الرياضي والإعلامي على النهوض، وكانت هذه بداية حالة عدم اليقين التي أصابت الجماهير، وبدأ صنم المدرب الوطني ينهار واصبح انتقاده جائزاً بعد أن كان خيانة وطنية.
هذه الانتكاسة ما سكنت حتى أتت الصدمة الكبرى بإقصاء المنتخب في مباراة السد أمام الكاميرون، وكان هذا نقطة التحول في علاقة الجماهير والدولة بجمال بلماضي، حيث كانت السلطة تعول على هذا التأهل المونديالي للتسويق للنجاح الرياضي الباهر الذي هو في الحقيقة ليس سوى شجرة تغطي الغابة وكذا المرور لوقت إضافي لترتيب الأوراق أمام صعوبات اقتصادية وسياسية جمة وحالة متردية للحقوق والحريات في الداخل.
عكس نظامهم الحاكم، لا يؤمن الجزائريون بأي معيار لتزكية المناصب سوى بالقدرة على الإنجاز، وهذا المعيار من منح جمال بلماضي لقب "وزير السعادة" قبل ثلاث سنوات، وهو ما جعله عرضة للانتقاد في الوقت الحالي أمام الفشل المتتالي الذي أصاب الفريق الوطني، وحالة الشك وعدم الإجماع الذي لم يعد يستوفيه بلماضي من شأنه أن يدفع بصناع القرار نحو التخلي عنه حال ما بقيت الأمور على ما هي عليه، خصوصاً أن كثيرين في الأوساط الرياضية باتوا يعتقدون أنه لم يبق للرجل ما يستطيع أن يقدمه، وأن بناء منتخب جديد بعقلية قديمة قد لا يكون حلاً موفقاً، خصوصاً أن بلماضي أصبح لا يصنع الحدث سوى بتصريحاته المزاجية وتصادماته المستمرة مع وسائل الإعلام. مع هذا قد يكون من الحكمة الإبقاء عليه وانتظار ردة الفعل مع توفر الوقت الكامل لإعادة الإحلال والبناء داخل صفوف المنتخب إلى غاية كأس إفريقيا القادمة سنة 2024 ومونديال 2026.
إن عودة المنتخب منشودة على كل المستويات بما فيها السلطة الحاكمة التي تريد الاستثمار مرة أخرى في نجاحاته الجديدة لأهداف جديدة، رغم أن هذا لا يمنع أن استفادتها كانت كبيرة من جمال بلماضي الذي مكنها من استكمال إعادة إنتاج النظام بطريقة سلسة خلال ثلاث سنوات كاملة بعد تنظيم انتخابات برلمانية ومحلية والقضاء على هوامش التغيير التي كانت متاحة وعودة الركود السياسي واستقالة المواطنين من أي مسؤوليات تمكّن لبناء البلاد من جديد، لذا فنجاح بلماضي أو فشله لا يهم كما كان يهم النظام في السابق، فقد انتهت المباراة وصفر الحكم نهاية المقابلة، وفازت السلطة الحاكمة بأهداف جلها تسلل منذ مدة طويلة، والخاسر معروف.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.