تساءلت حين أخذت في قراءة كتاب "الجاسوس النبيل" للصحفي والمؤرخ الأمريكي كاي بيرد، كيف يكون الجاسوس نبيلاً؟ وقد ذكرني هذا بكتاب صدر عن دار أخبار اليوم مترجماً قرأته عام ١٩٨٠، اسمه رجال شرفاء، والكتابان يتحدثان عن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية.
تساءلت: هل الهدف هو تجميل وجه المخابرات الأمريكية، أم أنه كتاب يريد إظهار الحقيقة، لكن مع استغراقي في القراءة فهمت ما يعنيه بأن الجاسوس يمكن أن يكون نبيلاً. فهو يحكي قصة ضابط أمريكي اسمه روبرت كليتن إيمز، والذي كان يرفض تجنيد عملاء يتلقون مالاً، وإنما كان يهدف لبناء علاقة ثقة مع العرب.
يبدي الكتاب أن إيمز قد أُغرم بالتاريخ العربي واللغة العربية، حيث بدأ إيمز أولى مهامه كملحق تجاري في قنصلية أمريكا في الظهران، ولكنه في الحقيقة كان مسؤول محطة الاستخبارات المكلف بتزويد الوكالة بصورة عن تيار القوميين العرب، وهناك كان حريصاً على التواصل مع العرب حضرهم وباديتهم.
انتقل ليعمل ملحقاً صحفياً في عدن وهناك أيضاً تعاطف مع الثوار اليمنيين ضد الإنجليز وكانت تقاريره تمتلئ بالنقد لطريقة تعاملهم مع الأهالي وبالتفهم لسبب الثورة ومطالبته بإنهاء الوجود الإنجليزي في عدن. هذا الموقف جعله صديقاً لعبد الفتاح إسماعيل اليمني الشيوعي الذي أصبح رئيساً لأول دولة شيوعية في العالم العربي، أتاحت هذه العلاقة لإيمز أن يشخص كيف يفكر الثوريون العرب.
تعرف إيمز أيضاً على باسل الكبيسي، وهو رجل عراقي سني عمل مع التيار القومي العربي منذ كان طالباً في الجامعة الأمريكية في بيروت، وانتقل منه إلى الجبهة الشعبية الفلسطينية، رسالته للدكتوراه كانت عن التيار القومي العربي.
استطاع إيمز أن يفهم الكثير عن القوميين العرب من خلال حواراته مع باسل، لكن تم اغتيال باسل بعد ذلك عن طريق الموساد.
الرجل الثالث الذي تعرف عليه إيمز وهو موضوع الكتاب الرئيس هو علي حسن سلامة، والذي كانت علاقته ممهدة لتوقيع اتفاقية السلام في حديقة البيت الأبيض- كما يعتقد رجال الوكالة.
الذي مهد للعلاقة بين علي حسن سلامة وروبرت إيمز كان مصطفي زين، لبناني ينحدر من عائلة شيعية غنية، تعلم مصطفى في مدرسة جيرارد التابعة للكنيسة الإنجليكانية وهي مدرسة داخلية تقع في صيدا. ثم انتقل إلى أمريكا للدراسة الجامعية، ونظراً لاهتمامه بالسياسة انتخب نائباً لرئيس منظمة الطلبة العرب في أمريكا وكندا.
ومن خلالها تواصل مع الاتحاد الوطني لطلبة الولايات المتحدة، تبين فيما بعد أن الاستخبارات الأمريكية هي التي رعت تأسيس اتحاد الطلبة الأمريكي، لتكون وسيلتها للتغلغل في منظمات الطلبة الأجانب.
بعد تخرجه أصبح زين مستشاراً خاصاً ومترجماً للأمير زايد في أبوظبي. تلقى زين مكالمة هاتفية من زائر أمريكي عرف عن نفسه بأنه الملحق التجاري في القنصلية الأمريكية، وعندما التقيا أوضح الأمريكي لزين تمثيله للوكالة، وأنه يرغب في أن يقيم علاقة اتصالات معه، لم يستغرب زين ولم يرفض صراحة، فقال له زائره إنه حين يزور لبنان سيتلقى اتصالات من رجل اسمه بوب إيمز.
بعد عام تقريباً كان اللقاء الأول بين الرجلين، افتتح إيمز اللقاء بالقول إن ملف زين في مكتب الوكالة يجمع كل تفاصيل حياة مصطفى.
رد زين بأنه لا يستغرب ذلك، وتابع أنه يستغرب تحالف أمريكا مع الصهاينة على حساب العرب.
لم يتلق زين ومن قبله عبد الفتاح وباسل ومن بعدهما سلامه أية أموال نظير العلاقة مع الوكالة الأمريكية، وأبلغ إيمز زين بأنه مكلف من قبل الرئيس نيكسون بأن يجد طريقة للتواصل بين أمريكا ومنظمة التحرير. وهنا عرفه زين على علي حسن سلامة أو الأمير الأحمر، قائد استخبارات فتح.
هاجرت أسرة سلامة إلي بيروت بعد استشهاد الأب، القائد الفلسطينى حسن سلامة، خلال عملياته العسكرية ضد عصابات الصهاينة عام ١٩٤٨. علم جمال عبد الناصر بأن أرملة القائد سلامة تعاني في تعليم أبنائها، فأمر باستقدامهم إلى مصر للدراسة على نفقة الدولة، وخصص لهم راتباً. تخصص علي في الهندسة، وبعد انتهائه تعلم اللغة الألمانية، ثم التحق بمنظمة فتح، ألحقه عرفات بجهاز رصد، المتخصص في الاستخبارات المضادة. وتدرب على أيدي الاستخبارات المصرية. أسس علي جهاز الاستخبارات الفلسطيني المسمى القوة ١٧.
وقد تصادق علي مع مصطفى الزين من خلال اتحاد الطلبة العرب، وفيما بعد أبدى له رغبة في الاتصال بمسؤولين أمريكيين.
علم مدير الوكالة المركزية الأمريكية ىالاتصالات مع سلامة مبكراً، بل وهناك ما يشير أن الرئيس نيكسون ووزيره كيسنجر قد علما بها شخصياً بعد ستة أشهر من تاريخ بدايتها، رغم أن هناك تصنيفاً أمريكياً لمنظمة التحرير بأنها إرهابية، وذلك يجرم تواصل أي مواطن أمريكي معها، إلا أن للمخابرات استثناءات، فعالم المخابرات يستحل كل شيء.
صورة سلامة في ملفات الوكالة أنه رجل وسيم، مولع بالنساء، يتحدث ثلاث لغات، مطربه المفضل الفيس بريسلي، يحتفظ بلياقة جسمه عن طريق ممارسته لرياضة الكاراتيه في فندق إنتركونتيننتال، ذكاؤه يستحق درجة ١٨٠ بموجب المقاييس المعروفة، وهو مقياس مرتفع، شره للتدخين، هذا التصوير يوضح الدقة التي ترسم الوكالة بها أهدافها.
لقد أصبح سلامة مصدراً أساسياً للمعلومات عن الحالة الفلسطينية عند الوكالة، ومن دراسة أحداث الأردن ١٩٧٠ يتضح مدى تأثير المعلومات التي نقلها للأمريكان، فإن المعلومات التي زودهم بها كانت سبباً في نقاش جديٍّ واسع حول إذا ما كان الأفضل أن تتخلى أمريكا عن الملك حسين لصالح منظمة التحرير، ولولا الحرب الباردة لكان هذا خياراً حقيقياً.
في رأي إيمز- الذي ألف شعراً يرثي فيه عبد الناصر- كان ناصر شخصية ذات هموم كبيرة، وزعيماً شعبياً حاول بصدق أن يحسن حياة الفلاحين المصريين الفقراء، إلا أنه بني دولة قليلة الكفاءة وأحياناً متعثرة، لم يكن ديكتاتوراً، إلا أنه لم يكن ديمقراطياً، لم يكن فاسداً على المستوى الشخصي، كما أنه القائد الوحيد في العالم العربي الذي كان بإمكانه أن يدعي أنه يمثل الرغبة العامة للشعب، حاول أكثر من رئيس أمريكي الإطاحة به، إيمز أعتقد أن الوكالة المركزية قد خططت لذلك بالتعاون مع خصومه السياسيين في داخل مصر وخارجها.
اتضح مدى تأثر إيمز شخصياً وكذلك الوكالة بما أصبحت تحصل عليه من حوارها مع علي سلامة، لكن شكل العلاقة لم يكن مريحاً لدوائر نافذة في الوكالة، رؤساء إيمز كانوا بخلافه يريدون تجنيد عملاء رسميين. وهؤلاء قالوا إن محاضر اللقاءات بين إيمز وسلامة كانت في أغلبها تعبيراً عن وجهات نظر. نيكسون وكيسنجر أحسا بأن هذه القناة الخلفية للتواصل مع منظمة التحرير مفيدة، ولكنهم أيضاً يفضلون أن تكون العلاقة من خلال عميل مدفوع الأجر.
تكثف النقاش في مركز الوكالة الرئيسي حول طبيعة علاقة إيمز مع سلامة، أصر بعض الضباط على أنه يتعين على إيمز أن يحول سلامة إلى مخبر رسمي، وغلب على تفكير الوكالة أن عرفات شخصياً مطلع على تفاصيل العلاقة، ونادى بعضهم ليقول إن سلامة ربما أقنع عرفات بأنه استطاع تجنيد أحد ضباط الوكالة. عارض إيمز هذا التوجه قائلاً إن علاقته بسلامة في الواقع هي طريق ذو اتجاهين، فإن الختيار يريد عن طريق هذه القناة الخلفية، أن تفهم أمريكا أنها لا يمكنها أن تستمر في تجاهل أن المنظمة هي حركة كفاح وطني، بينما يحاول إيمز بالمقابل أن يؤثر على المنظمة لتتصرف وكأنها حزب سياسي لا كحركة فدائية، وكلا الطرفين يطمح إلى أن تتحول قنوات الاتصال هذه إلى علاقة دبلوماسية حقيقية.
لكن كل ذلك لم يقنع الوكالة بغير أن تحاول تجنيد سلامة، وأخبر إيمز مصطفي زين كذباً أن واشنطن وافقت على بدء حوار مع منظمة التحرير، دعاه أن يتوجه مع سلامة إلي روما لحوار سري مع أحد ضباط الوكالة المرموقين، توجه سلامة مع صديقه مصطفى إلى روما، فرانك كاسن، الضابط الأمريكي الذي كان مديراً لمحطة التجسس الأمريكية في دمشق وعمان سابقاً كان هناك.
ألمح كاسن إلى أنه راغب في الانفراد بسلامة، فغادر مصطفى. كان مصطفى قد حذر سلامة قبلها: تمالك أعصابك. سيحاولون تجنيدك، عُرض على سلامة راتب قدره ثلاثمئة ألف دولار سنوياً. شعر كاسن بالارتياح من هدوء سلامة، وانتهى اللقاء بالاتفاق على لقاء آخر في اليوم التالي. في الاجتماع الثاني استأذن سلامة لبعض الوقت، قال مصطفى لكاسن إن علي أخبره بكل شيء، ستعترف أمريكا بمنظمة التحرير وهي مستعدة لمساعدتها بالمبلغ المشار إليه سنوياً، وقد أبلغ سلامة عرفات بذلك والختيار ممتن جداً. ذُهل كاسن وعلم أن العربيين يتلاعبان به، وغادر ينقل إحباطه إلى رؤسائه الذين لم يكونوا أقل خيبة منه.
أفسدت المحاولات الأمريكية على الطرفين، وخاصة علي سلامة. فقد كثف منافسوه ضغوطهم على عرفات لاستبعاده، أبو إياد كان مناوئه الرئيسي وقد حمله سابقاً مسؤولية الفشل الاستخباراتي في معرفة النوايا الحقيقية للملك الأردني ضد الفدائيين، خلال تلك الفترة قامت القوة ١٧ بتصفية خمسة أشخاص في أوروبا، قال أبو إياد إنهم من رجاله، اضطر عرفات لإبعاد سلامة حتى تنتهي التحقيقات، برأ التحقيق سلامة، وأكد أن الرجال الذين اعتبرهم أبو إياد من أتباعه كانوا جواسيس لإسرائيل في الحقيقة.
إيمز كان الأكثر قلقاً، وخاصة أن سلامة قد أظهر صدوداً تجاهه، لكن المعلومات الأمريكية عن وجود صانع رسائل متفجرة في إسرائيل جعلت إيمز يحذر صديقه من أنه سيكون مستهدفاً بهذه الرسائل مثل بسام أبو شريف وغسان كنفاني، أدى هذا التحذير إلى فحص الرسائل التي تصل إلي سلامة قبل فتحها، واكتشف أن إحداها كانت مفخخة، وكانت يمكن أن تودي بحياته. أدت هذه الحادثة إلي ترميم العلاقة بين الطرفين. وفي الحقيقة لم تكن هذه هي المرة الوحيدة التي تبادل فيها الطرفان معلومات استخباراتية مهمة أفسدت الكثير من العمليات الإرهابية، مثلما يحدث بين أي جهازي استخبارات مهنيين في العالم.
(يتبع)
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.