لم أكتب كلمة منذ إعلان قصر باكنغهام عن وفاة الملكة إليزابيث الثانية، والآن سأكتبها بعدما تابعت مراسم تشييع الجنازة في يومها الأخير، وكنت أراقب طقوس تشييع الجنازة لأربطها بالتاريخ الاستعماري الذي تفاخرتْ به الملكة في حياتها، والآن تتفاخر به في موتها.
لقد رأيت النعش الذي وُضع داخله جثمان الملكة إليزابيث، توافد عليه الجمهور منذ أيام بعاصمة الضباب لندن، وقد شاهدت التاج البريطاني الذي كانت تضعه الملكة على رأسها واقفاً فوق نعشها، والكورة والصولجان هما ما تبقى من تاريخ الملكة الإمبريالية.
وهؤلاء الجنود الذين ساروا في مراسم تشييع الجنازة هم الجنود الذين قامت على مدافعهم الإمبراطورية البريطانية ومستعمراتها، وتلك المدفعية التي حُمل عليها النعش وأحاطها الجنود وضباط البحرية هي مدفعية يُستعرض فيها التاريخ العسكري البريطاني.
والطريق الذي سار فيه جثمان الملكة والفرق العسكرية من دول الكومنولث، جميعهم شاركوا في هذه المراسم من أجل الاستعراض والتعبير عن القوة العسكرية والسياسية التي هيمنت بها بريطانيا قديماً على العالم، لذا هم يعترفون بسيادة الملكة حتى بعد وفاتها.
والشخصيات السياسية العالمية التي اجتمعت بمراسم الجنازة بكنيسة وينستمستنر آبي، وحضروا طقوس الجنازة، وظيفتهم هي الخضوع للتاج البريطاني وتقديم العزاء والولاء بعد رحيلها؛ لذا ألقى بايدن تلك الكلمات الوداعية عن الملكة ومعه رئيس فرنسا إيمانويل ماكرون، بالإضافة إلى ملوك أوروبا وقرابتهم بالملكة. والجميع قد شاركوا في هذه المراسم، حتى رؤساء المستعمرات.
لم أستطع فهم الأسباب التي جعلت الجماهير الأوروبية تتفاعل مع الملكة إليزابيث الثانية على الرغم من قطع رؤوس الملوك في أوروبا وقيام الثورات المناهضة للأنظمة الإقطاعية الأوروبية المتحالفة مع الكنيسة ورجال الدين. والآن نراهم يتعاطفون معها.
لا يمكننا التغاضي عن الجرائم الإنسانية التي ارتكبتها بريطانيا في الهند وجنوب إفريقيا، ولا يمكننا التغافل عن التاريخ الاستعماري للدول الغربية في إفريقيا وقارة آسيا، فهذه الأنظمة بشعة، ولها تجاوزات أخلاقية بحق الشعوب المستعمرة، لذلك هم مجرمون.
والتاج الذي كانت تضعه إليزابيث على رأسها صُنع بدماء الشعوب المستعمرة في جنوب إفريقيا، والجواهر المرصعة بأطرافه تمت سرقتها من جنوب إفريقيا. وكأن الملكة تعترف بهذه السرقة، لذا صاحبها التاج طيلة مراسم تشييع الجنازة، وتلك وصمة الاستعمار التي تصاحب الدول الأوروبية في حياتهم وفي مماتهم إلى الأبد!
العقلية الغربية والاستعمار
هناك تناقض في جوهر الثقافة الغربية المعاصرة. وتلك التناقضات يمكن فهمها في ظل التاريخ السياسي الأوروبي والتاريخ الحديث. فالتناقض الأول الذي يَفرض على الدول الغربية سقوط أقنعتهم يتعلق بملفات الاستعمار، فعندما يتحدثون عن تاريخه ينتقدون الحقبة الاستعمارية، ولكنهم لا يجرؤون على الاعتذار عنها.
وإذا قدم رموز السياسة الأوروبية اعتذارات رسمية للشعوب المستعمرة فهم بكل سهولة يتخلون عن إرثهم الاستعماري، وذلك يتناقض مع العقلية الغربية الأوروبية والنزعة القومية. والتناقض الثاني نلاحظه في المنظمات الحكومية وغير الحكومية والمثالية الغربية المتعلقة بالشعارات الديمقراطية وحرية تقرير المصير.
فجميع هذه الشعارات ضبطت للاستهلاك السياسي والخطابات السياسية، ولا تحمل أي قيم أخلاقية سليمة تمكنها من إصدار الأحكام الأخلاقية المتعلقة بقضايا الاستعمار وجرائمه البشعة.
فانون والاستلاب والشعوب المستعمرة
لقد ترك المسُتعمر الشعوب المستعمَرة هشة، وزرع في نفوسهم رؤية دونية، يحتقرون فيها ذواتهم ويمجدون المستعمر، لذا فهم قد سلبوهم الحرية والقوة والمقاومة وبهذا أخضعوهم عسكرياً. ذلك بحسب فلسفة فرانس فانون وتحليلاته النفسية لنفسية المُستعمَر.
وبهذا يمكننا تفسير تفاعل الجماهير التي استعمرتها بريطانيا كالولايات المتحدة الأمريكية وكندا وأستراليا ونيوزيلندا عند رحيل الملكة إليزابيث يتعاطفون شعورياً دون أي وعي وهم بذلك يغفلون عن حِقباً استعمارية مظلمة وجرائم بشعة.
ما بعد الكونوليالية وإدوارد سعيد عن الاستشراق
وفي الدول العربية التي تباكت بعض الأفراد من شعوبها بالدموع حزناً على رحيل الملكة إليزابيث، فإن المؤسسة الاستشراقية قد رسمت صورة ناعمة عن الرموز الاستعمارية الغربية وألصقتها بوعي الإنسان العربي؛ لذلك يتباكون شعورياً ويتناسون عقلياً المشروع الإمبريالي البريطاني، الذي ساهمت به بريطانيا، في قيام دولة صهيونية على الأراضي الفلسطينية في عام 48، وقبل ذلك كان إعلان وعد بلفور، الذي مهد الطريق أمام قرار التقسيم لاحقاً بعام 47م، وهذه الأحداث تُحيلنا إلى اتفاقية سايكس بيكو والتفاوض البريطاني الفرنسي، على حساب الشعوب العربية وأراضيهم المقسمة والمحتلة.
وانطلاقاً من تحليلات إدوارد سعيد للاستشراق والمؤسسة الاستشراقية، نفهم بسهولة أسباب الهيمنة، التي جعلت الإنسان العربي يتضامن ويحزن على إليزابيث إلى درجة البكاء، وفي مرحلة متطورة إقدام مواطن عربي على أداء العمرة نيابة عن الملكة البريطانية، حفيدة الإمبريالية الفيكتورية!.
كانت مراسم الجنازة مجرد استعراض للتاريخ الاستعماري البريطاني، وكان النعش صورةً حقيقيةً مادية عن ذلك الإرث.
ولم أتفاعل مع مراسم الاحتفال بقداس الجنازة لأنني مسلم، ولأنني عربي، ولأنني أبغض المؤسسة الغربية الإمبريالية التي ارتكبت جرائم بشعة بحق الشعوب الإنسانية عامة والعربية خاصة.
الضمير الأخلاقي يمنع من التضامن مع المجرمين، فكيف بالحزن على مجرم يحمل على نعشه مقتنيات مسروقة ومصنوعة بدماء الشعوب المستعمرة، وهو يتفاخر بإنجازات ذلك التاريخ المظلم؟!.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.