هل ماتت السياسة في مصر؟ سؤال بات يتردد مرة أخرى، بعد أن كان قد اختفى بعد 25 يناير/كانون الأول 2011 و30 يونيو/حزيران 2013. فخلال حقبة مبارك التي امتدت لثلاثة عقود، أصبحت السياسة في حالة موات أو احتضار، وكان أبرز مؤشرات ذلك، ضعف الأحزاب السياسية، ومنح الشرعية السياسية للعمل العام لمن هم محجوبون عن الشرعية الدستورية والقانونية، أي جماعة الإخوان المسلمين، كما اتسم المجتمع المدني بالهشاشة، وضعف الإعلام، وتربص النظام الحاكم بالسلطة القضائية، وبقت السلطة التشريعية في حال خلل بيّن في التوازن بينها وبين السلطة التنفيذية.
كل تلك الأمور تلاشى معظمها بعد اندلاع أحداث 25 يناير/كانون الثاني 2011، وكان مظهر هذا التلاشي، الذي أحيا السياسة في مصر، قد بدأت إرهاصاته مع بروز المعارضة بالشارع في نهاية حكم مبارك، على يد حركات كثيرة على رأسها كفاية، وحركة استقلال القضاة، وغيرها من حركات المعارضة، التي وقفت بقوة في وجه توريث السلطة من مبارك لابنه.
اليوم ونحن قد تجاوزنا عقداً من الزمن على أحداث يناير، عاد السؤال يطرح نفسه من جديد، هل أصبحت السياسة في حالة موات مرة أخرى؟ وذلك بمناسبة ما هو ملاحظ من غلق المجال العام في مصر، والذي كانت أبرز شواهده:
زيادة عدد الأحزاب السياسية ليتجاوز ذلك 80 حزباً، دون أن يكون لذلك أي مردود في الشارع. بعبارة أخرى، تناسب عدد الأحزاب مع ضعفها، فالبنى الحزبية زادت هشاشة، وتقوقعت الأحزاب داخل مقراتها، واندثرت في غالبيتها الأنشطة التثقيفية والتجنيدية، وأصبحت مؤتمراتها العامة والخاصة محدودة للغاية، كما أصبح غالبيتها في حال ضعف شديد ديمقراطياً، سواء من حيث تداول القيادة فيها، أو دمقرطة اتخاذ القرار داخلها. بل إن بعضها أصبح مجرد اسم، ومقر مغلق، هجره مؤسسون لم يعرفوا عنه شيئاً إلا ذكرى توقيعهم على تأسيس كيانٍ إرضاء لشخص سماه القانون "ممثل المؤسسين".
يرتبط بما سبق، ونتيجة له، وجود الشكل المعتاد ذاته الذي مردت عليه الحياة الحزبية المصرية قبل وبعد التعددية الحزبية الثالثة التي بدأت في 11 نوفمبر/تشرين الثاني 1976، من أشكال الحزب القائد أو المهيمن في الحياة السياسية. فرغم أن الدستور الحالي أقر بعدم تحزب رئيس الدولة، وهو بالفعل ملتزم بذلك، فإن النظام الحزبي الراهن قد خلف وريث حزبي الاتحاد الاشتراكي والحزب الوطني الديمقراطي، وهذا الوريث مرد على اتباع وسائل غريبة إبان الانتخابات البرلمانية، لا تختلف ألبتة عن نهج جماعة الإخوان المسلمين ذاته، من توزيع الهدايا والعطايا وكراتين المواد التموينية على الناخبين وقت الاقتراع.
ما سبق من مظهرين أديا إلى نتيجة في غاية السوء، وهي تجريف الحياة السياسية في مصر، ولعل أبرز دليل على ذلك هو استشراء عملية الاستقلال وليس التحزب لدى المواطن المصري. بعبارة أخرى، إنه إذا قلنا إن المؤهلين للعمل السياسي الحزبي في مصر هم قانوناً المؤهلون لمباشرة الحقوق السياسية وعددهم الآن يربو على 65 مليون مواطن، فإن عدد المنتمين للأحزاب السياسية القائمة لن يصل ألبتة إلى مليون شخص، وهي نتيجة جد خطيرة، وتنم عن حال موت السياسة، إذا حسبنا أن الأحزاب السياسية -رغم المناخ العولمي والحداثي- ما زالت هي الرمز التقليدي لممارسة المواطن للعمل السياسي والتجنيدي والتعبوي.
تدهور أوضاع المجتمع المدني، فرغم كثرة عدد الجمعيات الأهلية، فإن التدخل في أنشطتها، وحجب التمويل المشروع عنها، أصاباها بالوهن. فبدلاً من أن تكون مساعداً للدولة في عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وهي بالفعل تتحمل الكثير في سبيل ذلك، إلا أن تلك المؤسسات تواجَه دوماً بقيود كثيرة.
حال الإعلام الذي أصبح مقيداً إلى حد كبير من خلال رقابة ذاتية وخارجية كبيرة، وقد كان بيع عديد من المحطات الفضائية المصرية الخاصة لجهات وهمية قد ضرب حيادية تلك المنصات في مقتل، وجعلها أدوات مروجة لسياسات محددة وأبواقاً لصوت واتجاه واحد في الأغلب الأعم.
بروز انتكاسات دستورية كبيرة على النحو الذي شهده المجتمع في التعديل الثاني لدستور 2012، عام 2019 وهو تعديل أدى لضمور وتكلس المجال العام في وسائل كثيرة متعلقة برجال القضاء، ومحاكمة المدنيين أمام القضاء الطبيعي، وتداول السلطة، فضلاً عن أن كافة النجاحات التي أتى بها الدستور في تعديله الأول عام 2014 أصبحت حبراً على ورق. فالتزام الدولة بصدور قوانين العدالة الانتقالية، والإدارة المحلية، ومنع انتداب القضاة لجهات غير قضائية، ومنع التمييز وغيرها، كلها أصبحت مجرد حبر على ورق. حتى إن من يردد بعضاً من تلك الأمور كالمطالبة بسن قانون العدالة الانتقالية مثلاً يُتَّهم بأنه متعاون مع جماعة إرهابية.
عقد انتخابين برلمانيين في الفترة التي تلت أحداث 30 يونيو/حزيران 2013، وكانت تلك الانتخابات قد عقدت بنظام انتخابي قبر ما تبقى في المجتمع من سياسة أتت بها 25 يناير و30 يونيو، إذ اعتمد نظام القائمة المطلقة -المسمى علمياً الكتلة الحزبية- التي هجرتها كل النظم الانتخابية في العالم باستثناء 3 دول، وهذا النظام هو الأكثر سلطوية وديكتاتورية في النظام الأغلبي، لأنه يعتمد فوز القوائم التي تفوز بـ50.1% من الأصوات بـ100% من المقاعد المخصصة في الدائرة الانتخابية، ما يعنى تزكية أو تعييناً مقنّعاً للنواب.
يرتبط بالأمر السابق أمر أكثر أهمية متصل بنتيجة ذلك النظام الانتخابي، وهو وجود برلمان تمريري "Rubber Stamp" ينفذ كل ما يطلب منه من سياسات تشريعية، ويبقى أعرج رقابياً، وذلك نتيجة الأغلبية المصطنعة التي خلفتها الانتخابات التي فصلتها تفصيلاً القوائم المطلقة، بل إن كثيراً من السياسات المهمة والمؤثرة في المواطن كتلك التي ترتبط ببيع شركات القطاع العام، أو فرض رسوم على وسائل نقل الأفراد عبر مترو الأنفاق الذي ينقل مئات الآلاف يومياً مثلاً، تتم دون أي تدخل منه.
تعقُّب القائمين على ممارسة بعض الأنشطة السياسية التي لا علاقة لها ألبتة بالعنف أو الدعوة له أو الفتنة الطائفية أو الانخراط في جماعة الإخوان المسلمين أو خلافه، وذلك إلى الحد الذي بلغ فيه عدد الموقوفين من سجناء الرأي، سواء المحكوم عليهم، أو المحبوسون احتياطياً، الآلاف من الأشخاص، وهؤلاء لا يوجد أي بيان رسمي بعددهم، رغم أن أصوات كثير من منظمات حقوق الإنسان المصرية والدولية وبعض الأحزاب السياسية المصرية بُحت لمعرفة عددهم دون جدوى. هذا بالطبع يعد واحداً من أبرز أسباب الخوف من العمل بالسياسة في البلاد.
والآن، إلى أين نحن ذاهبون؟
بالطبع ما ورد من مشكلاتٍ أمر قابل للحل، لا سيما أنه لا يتصل بالشأنين الاقتصادي أو الاجتماعي. فهذان الشأنان مكلفان في إجراءات الإصلاح أو التغييرات المطلوبة. بعبارة أخرى، إن الإصلاح السياسي أمر مجاني غير مكلف للدولة أو للمجتمع، ومن ثم يبقى سهلاً إذا سلمت النوايا.
لقد أعلن رئيس الدولة العام الماضي، أن العام 2022 هو بداية لتقرير استراتيجية حقوق الإنسان، وخلال رمضان الماضي أعلن الرئيس عن حوار وطني بين القوى السياسية المؤيدة والمعارضة للحكم. من هنا يؤمل أن تكون تلك بداية حقيقية لإفاقة السياسة في مصر. وتلك الإفاقة عملية سهلة وغير مكلفة كما سبق القول.
فبداية، هناك حاجة ماسة لإعمال نظام القوائم النسبية (حزبية أو غير حزبية) في الانتخابات البرلمانية، أو على الأقل الجمع بين القائمة النسبية والأسلوب الفردي الأغلبي. فنظام القائمة النسبية سيشجع المواطنين على الانخراط في الأحزاب السياسية. صحيح قد يقول قائل إن الأحزاب غير موجودة في الشارع، فكيف لهذا النظام أن يكون فاعلاً، لكن الرد على تلك المقولة التي تتردد منذ عقود، هو أننا لو بدأنا منذئذ في إعمال تلك الوسيلة لكانت الأحزاب قد قويت اليوم. وقد يقول قائل أيضاً إن معظم النظم الانتخابية في البلدان المتمدنة نظم أغلبية وتتبع الأسلوب الفردي، وهذا القول صحيح لكن يرد عليه بأن اتباع هذه الوسيلة جاء بعد أن اتبع الغرب نظماً انتخابية نسبية عاشتها تلك البلدان لعقود، حتى انغمس المواطن في الأحزاب، واليوم فإنه في نظم الأغلبية في تلك البلدان، ورغم الانتخابات الفردية، فإن الأحزاب هي التي تتصدر المشهد وليس الأفراد.
الاتجاه إلى عدم مصادرة الرأي أو تعقب العاملين بالسياسة؛ أملاً في خروج المواطن من استقلاليته، ولجوئه للتحزب. فالأحزاب هي بوتقة الديمقراطية، والتجنيد من خلالها هو أفضل الوسائل لممارسة عمل سياسي يتسم بالشفافية. في هذا الصدد من المهم ومن خلال الحوار الوطني الذي بدأت أعماله، أن تتخذ سياسات ترغّب المواطن في الانغماس في العمل السياسي، بدلاً من سيادة مناخ الخوف، الذي يقف على رأسه مؤسسات رسمية أو غير رسمية تحتكر الوطنية وتوزع اتهامات التخوين وتمتلك وحدها صكوك حب الوطن. من هنا فوضع آليات للحد من الحبس الاحتياطي التقليدي وتداعياته، سواء من حيث المدة، أو طبيعة الاتهام، أو بدائل الحبس خلف جدران السجون، أو حرية المفرج عنهم في التصرف في أرصدتهم البنكية، واحد من أهم الأمور المانعة للتخويف ومصادرة الحقوق الدستورية.
وضع آليات قانونية لتشجيع الأحزاب السياسية على ممارسة العمل العام، بما يهدف إلى خروج المواطن من حالة الاستقلال. وهنا من المهم رقابة عمل الأحزاب كي ينضبط سلوكها الذي أصبح المواطن ينفر منه بسببه، كالحوكمة ومواجهة الفساد، ودورية عقد مؤتمراتها، واختيار قياداتها بوسائل ديمقراطية. كما أن من الضروري تشجيع الأحزاب على الاندماج في تيارات واضحة عوضاً عن حال التشرذم والتبعثر القائم، وكذلك تشجيع وجودها بالشارع سواء في العاصمة أو المحليات، وذلك عبر تمويلها ذاتياً، وتمويل الدولة للحائز منها على مقاعد محددة في مجلس النواب. وكل ذلك يمنع الناس من الانغماس في تيارات متطرفة خارجة عن الدستور والقانون.
وضع عديد من الأسس التي تضمن تحقيق العدالة، وذلك من خلال أمرين: أولهما استقلال السلطة القضائية استقلالاً تاماً، من خلال النأي عن أي تدخل في تعيين القضاة، واستقلال الموازنات القضائية، ومنع ندب القضاة في هيئات غير الهيئات القضائية؛ لما في تلك الأخيرة من فساد متعمد لسلطة مهمة. وثانيهما، العدالة الناجزة، التي تهدف ليس فقط إلى سرعة البت في المشكلات بين المحكومين أو بين الحاكم والمحكوم، بل أيضاً في ضمان تنفيذ ما صدر من أحكام دون أي مواربات أو مجاملات.
وأخيراً وليس آخراً، فإن إعادة النظر في أوضاع كل من الإعلام والمجتمع المدني باعتبارهما من المؤسسات غير الرسمية في الدولة، من الأمور الدافعة للمواطن إلى الانغماس في العمل العام. فالأول يعطي من خلال حرية الإعلام، ثقة المواطن بجدية انفتاح المجال العام، والثاني يجعل المواطن مشاركاً في العمل الطوعي لخدمة بلده.
بالطبع فإن كافة تلك الأمور الإصلاحية تحتاج إلى سن بعض التشريعات، كما تحتاج إلى ممارسات يمكن أن تصبح على المدى المتوسط سلوكيات، وهو ما يمكن أن يكون دوراً فاعلاً لمؤسسات التنشئة الاجتماعية كمناهج التعليم وخلافه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.