عند كل دخول مدرسي يكثر التنظير لكيفية التعامل مع التلاميذ والطرق المثلى لعدم جرح مشاعرهم والأسئلة التي يجب أن تطرح عليهم في أولى الحصص وتلك التي ينبغي تفاديها.
ومن أمثلة تلكم الأسئلة التي يرى البعض أنه يجب تجنبها، السؤال عن مهنة الأب، لما في ذلك من استفزاز لمشاعر بعض التلاميذ وإزعاج لهم أمام زملائهم الآخرين، حسب زعمهم.
إن الغريب في الأمر هو أن تجد من بين هؤلاء الذين ينادون بعدم طرح هذا السؤال بالذات معلمون قدامى لهم تجربة طويلة في ميدان التعليم، ومنهم أستاذة عملت لأكثر من 10 سنوات، أثارت هذا الموضوع في الموسم الدراسي الماضي، وهو الموضوع الذي رددت عليه على شكل تعليقات، إلا أنني وبعد تجدده وانتشاره في حسابات بعض المعلمين هنا وهناك، ارتأيت كتابة هذا المنشور للإدلاء برأيي المتواضع فيه.
شخصياً لا أرى في سؤال التلاميذ عن مهنة آبائهم إحراجاً أو إزعاجاً لهم، بل على العكس، من شأن هذا السؤال أن يفتح أبواب التقارب بين التلاميذ ومعلميهم، ويجعل هؤلاء على معرفة بالظروف المادية للمتعلمين والمحتاجين منهم إلى المساعدة، وكسر تلك الهوة والمسافة بين التلميذ ومعلمه، غير أن التعامل مع ما قد يحدث من سخرية بعض التلاميذ من مهن بعض، يبقى للمعلم الدور الكبير في الحد منها أو تحويلها إلى إحساس جميل وإيجابي، بأن يجعل من نفسه مثالاً ومنطلقاً، فيبدأ هو بذكر مهنة والده قبل سؤال المتعلمين، إذ بمجرد أن يصرح -ولو تقية- بأن مهنة والده فلاح أو نجار أو ميكانيكي.. فالأكيد أنه سيكسر تلك النظرة الاحتقارية السائدة عند بعضهم تجاه بعض المهن، وسيجعلهم يتساءلون باستغراب: هل فعلاً أستاذنا ابن فلاح مثلنا؟ أحقاً أستاذ الرياضيات ابن كساب؟ وبالتالي ستكون لهم الشجاعة للبوح بمهن آبائهم دون مركب نقص وسيزرع عندهم الأمل بأنهم في يوم من الأيام يمكن أن يصبحوا معلمين ومحامين وأطباء.
ومما يجب على المعلم القيام به كذلك عند طرح هذا السؤال تحذير التلاميذ مسبقاً من السخرية من مهن آباء بعضهم، بل عليه أن يجعل من منع السخرية والاستهزاء ببعضهم البعض بسبب اللون أو اللكنة أو اللباس البند الأول من ميثاق القسم.
على المعلم إذن دفعهم إلى الاعتزاز بمهن آبائهم وتذكيرهم بأن كل مهنة لها دور كبير في المجتمع والاقتصاد، فيذكرهم بأنه لولا البنّاء ما بُنيت القاعة التي يدرسون تحت سقفها وما شُيدت المنازل التي يسكنونها، ولولا الإسكافي ما أصلحت الأحذية التي ينتعلونها، ولولا الميكانيكي ما ركبوا السيارات، ولولا الفلاح ما أكلنا، كما عليه تنبيههم كل مرة إلى أن الشعوب الراقية هي التي تحترم العمل ومختلف المهن وتعتبرها شرفاً، وبذلك تبدو لهم المهن التي كانوا يعتبرونها حقيرة فيما قبل محترمة وتؤدي دوراً مهماً.
بالمناسبة أذكر ذات يوم ونحن في الحصص الأولى، بدأت بسؤال التلاميذ عن مهن أولياء أمورهم وإذا بي ألاحظ أن تلميذة قد صعب عليها التعبير عن مهنة والدها باللغة العربية فنطقت بالأمازيغية "بو تبرديوين" أي البرادعي أو صانع البرادع، ضحك أحد التلاميذ فاتجهت نحوه:
- وأنت ما مهنة والدك؟
- راعي أغنام في هذه الجبال المحيطة بنا
- جميل جداً، وبماذا يتنقل ويحمل المؤونة؟
- بالبغلة
- من يصنع له البردعة حتى يستوي جلوسه ومؤونته على البغلة؟ تصور كيف سيكون جلوسه عليها لولا البردعة وتصور حجم عذابها وهي تحمل الأثقال بدونها؟
بهت الذي سخر ورد متلعثماً:
- البرادعي طبعاً
- أرأيت إذن الدور الهام للبرادعي الذي كنت قبل لحظات تحتقره، قم إذن واعتذر لزميلتك وزملائك.
هكذا نجعل المتعلم يعتز بمهنة والده ويجاهر بها خاصة في الوسط القروي حيث لا يوجد تمايز كبير بين مهن الآباء.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.