لا يمكننا التخلي عن رغبتنا في انتزاع اعتذار رسمي عن كل ما حدث في الماضي، لأن كل الضحايا ما زالوا ينتظرون ولو كلمة أسف وندم، على ما حل بهم.
في 8 سبتمبر/أيلول 2022 رحلت "إليزابيث" الثانية من اسمها، ملكة إنجلترا، ملكة الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس عن عمر ناهز 96 عاماً، تاركةً خلفها كل العار وكل المآسي التي تسببت فيها خلال فترة حكمها.
إليزابيث هي الثانية من اسمها بعد إليزابيث الأولى التي حكمت إنجلترا خلال القرن السادس عشر منذ عام 1558 وحتى وفاتها في 1603.
بعد سنوات ظن الجميع أنها لن تنتهي، انتهت مدة حكم إليزابيث التي تجاوزت ستة عقود، حكمت فيها الملكة العديد من الدول، وحافظت فيها على لقب إنجلترا كإمبراطورية لا تغيب عنها الشمس، ولكن الرحيل المفاجئ للملكة يجعلنا نستدعي حوادث عديدة من التاريخ الذي لا يُنسى، حوادث وجرائم تمر في الأذهان الآن باعتبارها شكلت تاريخنا نحن كمصريين، وشكلت تاريخ كل مواطن عانى هو وبلاده من الاستعمار الإنجليزي الذي كان تحت رعاية الملكة المحبوبة صاحبة الإطلالة المميزة والألوان الزاهية، والتاج المرصع بالذهب المسروق من إفريقيا وآسيا.
إليزابيث على العرش الملكي
وُلدت إليزابيث ألكسندر ماري -إليزابيث الثانية- في 21 أبريل/نيسان عام 1926، وفي يونيو/حزيران عام 1953 تم تتويجها ملكة لإنجلترا خلفاً لوالدها جورج السادس. عاصرت الملكة العديد من الصراعات حول العالم، وشاهدت بنفسها تغير خريطة العالم لعدة مرات، وفي أوقاتٍ عديدة ساهمت هي كملكة لإنجلترا في إحداث هذه التغييرات. تبدأ الرحلة الاستعمارية لملكة إنجلترا من مصر. من العدوان الثلاثي، ومن ثم رحلات أخرى في اليمن وفيتنام والعراق، وجولات متفرقة سعت فيها الإمبراطورية المتحدة لإحداث أكبر الأضرار والحصول على أكثر المكاسب من خلال رحلاتها لبلادنا العربية حيث النفط، أو قارتنا الإفريقية حيث المعادن النفيسة.
ليس هذا المقال لتوجيه اللوم للملكة الراحلة، أو لإلصاق تهم الفشل والمصائب التي حلت على كل الدول التي عانت من الاستعمار بالتاج الملكي، ولكنني أكتب فقط لتوضيح بعض الأمور لكل من يرون في رحيل الملكة شيئاً شاعرياً فقط.
في مصر: يوبيل ماسي من الاحتلال
في تاريخنا المعاصر، ندرس في المدارس أن العدوان الثلاثي بقيادة إنجلترا وفرنسا وإسرائيل هو أحد أكبر الأحداث في تاريخنا؛ وذلك لفداحته وقسوة ما ألحقه بنا من خسائر. الاحتلال الذي كان إحدى أوائل الجرائم تحت رعاية الملكة إليزابيث والذي لا يمكن محوه من الذاكرة الجمعية- لم يكن وليد الصدفة، أو نتيجة سوء فهم، لكنه كان أحد مظاهر العلاقات التي جمعت المملكة البريطانية بمصرنا. فمن خلال احتلالٍ دامَ أكثر من 72 عاماً شهدتها مصر تحت وطأة الاحتلال البريطاني، خضنا فيها نحن برجالنا البواسل العديد من المعارك بشرف، بداية من عام 1882 حينما توجهت أنظار التاج البريطاني نحو مصر لتعويض الخسائر الفادحة لشركة الهند الشرقية وتبعات الكساد الاقتصادي الكبير الذي سيطر على تجارة بريطانيا وعالمياً خلال الجزء الأخير من القرن التاسع عشر.
الاحتلال الذي جاء من أجل قناة السويس التي لفتت أنظار الاستعمار الإنجليزي؛ لإنقاذ ما يمكن إنقاذه ولفتح جبهات تجارية جديدة، ساهم أيضاً في استكمال رحلات احتلال إفريقيا مروراً بالسودان ومن ثم جنوب إفريقيا، لتبدأ مرحلة جديدة من مراحل الإمبراطورية الدموية التي تم دفعها إلى التخلي عن وجهها المسالم كمستعمر تجاري يحصل على أكبر المكاسب من خلال تعاملاته التجارية إلى مستعمر عسكري يحكم بقوة البارود!
الجرائم الإنجليزية في حق كل دولة كانت تحت سلطتها لم تكن فقط من أجل مكاسب تجارية، ولكنها كانت جزءاً من استعراض القوة وإبراز العضلات تجاه القوى العظمى الأخرى أو المنافسين مثل فرنسا التي كانت تمضغ وتلوك كل قطعة أرض في الجزائر، إضافة إلى وجودها هي الأخرى في إفريقيا كمستعمر يبحث عن مصالحه. وعلى الرغم من معاهدات الجلاء التي تم توقيعها في 1922 فإن الوجود الإنجليزي الثقيل لم يرد التخلي عن مصالحه هنا. إضافة إلى كل ما خاضته المقاومة المصرية من معارك خسرنا فيها شر الهزائم، فإن كل ما سلف ذكره ليس ممكناً تجاهله في حدث مثل رحيل الملكة، التي كان جدها -جورج الخامس- مانح أشهر الوعود في القرن العشرين، جدها الذي منح بلفور عهده بفلسطين، الوعد الذي عُرف بوعد من لا يملك لمن لا يستحق، لتزرع المملكة بنفسها سرطاناً استيطانياً في قلب الوطن العربي.
سرطان لا يمكن التخلص من شره، ولم يعتذر عنه أحد نظراً إلى المصالح الكثيرة التي ترتبت وتترتب على وجوده بيننا. والبعض يقول إن هذا ليس من شأن الملكة الراحلة التي لم تزر إسرائيل ولا مرة، لأنها على حد تعبيرها "وطن غير مستقر وفي صراع دائم". والحقيقة هي أن العلاقات التي نشأت من أول بزوغ نجم شيطان الاحتلال بينه وبين التاج البريطاني ليست في حاجة إلى زيارات أو مقابلات دبلوماسية، يكفي فقط ما منحته بريطانيا لإسرائيل من خلال إنباتها من العدم في فلسطين وإقرار أحقية وجودها تاريخياً داخل فلسطين، إضافة إلى أنه لا يمكن لشيء سيئ أن يحدث لأحد في هذا العالم دون مباركة إنجليزية!
كراهية متجددة
في لحظات تتويج الملك الجديد تم رفع العلم الملكي المزركش بأكبر وأهم انتصارات المملكة، حينما ننظر في هذا العلم نجد اسم مصر كواحدة من الدول التي كانت تحت سطوة الإنجليز، ونجد أسماء معارك مثل "سيدي براني" و"التل الكبير". أنا واحد ممن لا يمكنهم الحزن على موت من أساء لبلادي، ولا يمكنني أن لا أشعر بالفضل لجمال عبد الناصر رغم كل ما حدث في فترة حكمه، ولكن لأنه وقف ذات يوم ليرد الإساءة التي لحقت به وبنا من خلال الإذاعة البريطانية التي كانت توجه الشتائم لكل العرب.
وكما حارب ضد الإنجليز من أجل استقلال القناة فإنه لم يخف ووقف في البرلمان ليرد السب بالسب، ويرد الإساءة التي لحقت به إلى ملكة إنجلترا شخصياً. أنا واحد من كثيرين لا يمكنني أن أنظر إلى التاج الملكي بتقدير، ولا يمكنني احترام كل ما يبدونه من احترام وإجلال للموت الملكي، لأنهم ببساطة يرون أنفسهم فوق البشر، ولا يرون لحياة الملايين التي راحت بسبب جرائمهم أي قيمة. الملكة الراحلة التي لم تعتذر عن جرائم الحرب التي قامت بها دولتها في الحرب العالمية الثانية أو خلال فترة حكمها يترحمون عليها على مواقع التواصل الاجتماعي باعتبارها رمز الرُّقي والاحترام!
وعلى الرغم من ذلك فإن هناك كثيرين أثاروا على السطح قصة الأميرة ديانا أميرة ويلز، طليقة الملك الحالي الراحلة، التي وبعد أكثر من عشرين عاماً على رحيلها مازالت أصابع الاتهام بقتلها توجه للبيت الملكي الذي عانى فيه كل من ديانا وميغان على الترتيب.
في رحيل إليزابيث الثانية ليس مُمكناً تجاهل كل هذا التاريخ الأسود، لأن التاريخ لا يُنسى، ولأننا نستحق أن نحصل على اعتذار رسمي عن كل ما لحق بنا جراء الاستعمار، فقط لأن هناك جرائم لا تسقط بالتقادم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.