من الأمور التي فضل الله تعالى بها الأمة المسلمة، وميزها على سائر الأمم، وجعلها وسيلة للشهادة على الناس، وذكرها في كتابه على سبيل التفضل عليهم؛ (الوسطية)؛ فهي مطلب شرعي أصيل ومقصد عظيم؛ وهي كذلك الاعتدال في كل الأمور في الحياة والتوسط بين الغلو والتفريط؛ قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 143].
وردت مادة وسط في القرآن الكريم في عدة مواضع، وذلك بتصاريفها المتعددة، حيث وردت بلفظ "وسطاً" و"الوسطى" و"أوسط" و"أوسطهم" و"وسطن".
أ ـ كلمة "وسطاً":
وردت في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً}[ البقرة 143].
وروى الطبري بإسناده عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله: قال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً}قال: "عدولاً".
وقال محمد رشيد عن مجموعة من العلماء: إن الوسط هو العدل والخيار، وذلك أن الزيادة على المطلوب في الأمر إفراط، والنقص عنه تقصير وتفريط، وكل من الإفراط والتفريط ميل عن الجادة القويمة، فهو شر ومذموم، فالخيار هو الوسط بين طرفي الأمر، أي: المتوسط بينهما.
وقال عبد الرحمن السعدي في تفسيره أي: عدلاً {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} وما عدا الوسط فأطراف داخلة تحت الخطر.
ولهذا الأمة من الدين أكمله، ومن الأخلاق أجّلها، ومن الأعمال أفضلها، ووهبهم من العلم والحلم والعدل.
والإحسان ما لم يهبه لأمة سواهم، فلذلك كانوا كاملين معتدلين، ليكونوا {أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى} سبب عدلهم وحكمهم بالقسط يحكمون على الناس من سائر {النَّاسِ}، ولا يحكم عليهم غيرهم.
ب ـ كلمة {أَوْسَطِ}
وردت هذه الكلمة في آيتين: الأولى في قوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ}[ المائدة 89].
والثانية في سورة القلم في قوله تعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ *} [ القلم 28].
قال الطبري: يعني تعالى ذكره بقوله: أعدله. قال عطاء بن أبي رباح التابعي الجليل والفقيه الكبير: أوسطه: أعدله.
وقال الطبري: وقوله يعني: {أَوْسَطُهُمْ}، وقال ابن عباس -رضي الله عنه-: أوسطهم: أعدلهم.
وقال قتادة: أعدلهم قولاً.
إن الوسطية هي مؤهل الأمة الإسلامية من العدالة والخيرية للقيام بالشهادة على العالمين، وإقامة الحجة عليهم، ومكانة الشهادة على الناس، والاضطلاع بدور عالمي مشهود، مرتبط بمدى استجابتها لعناصر القوة، ومنها التمسك بالعدالة كقيمة محورية في الحياة، وفي بناء المجتمع، ولا تكون أمة وسطاً أو خير الأمم إلا بشروط أخلاقية، وحضارية، وثقافية، وسياسية، إذ لا يمكن لأمة واهية متخلفة ضعيفة تئن تحت الاستبداد السياسي والاجتماعي، والتهاون فيما يخص حقوق الإنسان وكرامته، أمة مسكينة فقدت المبادرة في المجال الحضاري
ج. خيرية الأمة المسلمية:
قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [ آل عمران: 110].
لم تَنَلْ هذه الأمة هذه المكانة السامقة بين الأمم مصادفة، ولا جزافاً، ولا محاباة، فالله سبحانه وتعالى منزه عن أن يكون في ملكه شيء من ذلك، فكل شيء عنده بمقدار، وهو يخلق ما يشاء ويختار، وهو سبحانه عندما أخبر أن هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس، بيّن وجه ذلك وعلته.
فبهذه الأمور الثلاثة العظيمة القدر كانت هذه الأمة خير أمة أُخرجت للناس، على أن هذه الأمور ليست هي كل ما كانت به هذه الأمة خير أمة، إذ هناك أمور وخلال كثيرة أهّلت هذه الأمة لهذه الخيرية، ولكن هذه الثلاثة أهمها وأعظمها، إذ لا تدوم ولا تستمر هذه الخيرية ولا تحفظ إلا بإقامتها وأدائها، فإن فقدت هذه الأمور في جيل من أجيال هذه الأمة لم يكن حرياً بهذه الخيرية التي حظيت بها هذه الأمة.
إن إيمان هذه الأمة بالله -عز وجل- يدل على عدلها؛ لأن الشرك بالله ظلم عظيم، ووجه كونه عظيماً أنه لا أفظع وأبشع ممن سوّى المخلوقات من تراب بمالك الرقاب، وسوى الذي لا يملك من الأمر شيئاً بمالك الأمر كله، وسوّى الناقص الفقير من جميع الوجوه بالرب الكامل الغني من جميع الوجوه.
وباتفاق الجميع أن الإيمان بالله هو الأساس الذي يُبنى عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإذا لم يكن ثمة إيمان على أساسه يتصور المعروف فيؤمر به، والمنكر فينهى عنه، فليس هناك أمر بمعروف ونهي عن منكر بالمعنى الشرعي.
والعدالة غائبة في أوطانها وبين أبنائها، ومكوناتها أن تكون شاهدة على الناس، أو أن تكون مؤهلة لذلك.
إنَّ الأمة الشاهدة الصالحة تهدي بالحق وتعدل به، وكتابه تعالى نزل بالحق والعدل، والعدل بالحق يقتضي إقامة نظام على أساس من {أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ *}، والديمقراطية، والحرية، والمساواة، وحقوق الإنسان، والكرامة الإنسانية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.