منذ بداية حُكم العلويين للمغرب زادت مكانة عِلم الحديث، ولم تعد تقتصر على اهتمام الملوك برعاية المُحدثين ولا حتى حضور المجالس الحديثية بأنفسهم ومشاركة العلماء النقاش في القضايا الفقهية، وإنما اعتُبر كتاب صحيح البخاري النواة الأصلية التي قامت عليها الدولة.
يقول الحسين وجاج في بحثه "دور الحديث بالمغرب"، إنه خلال المواكب السُلطانية الاحتفالية، كثيراً ما كانت تُعرض نسخة من الكتاب داخل تابوت مزين يوضع فوق فرس مطهم دلالة على مدى اعتناء الدولة بالحديث، ولتركيز احترام الكتاب في نفوس المواطنين.
وحينما قرّر المولى إسماعيل (حكم المغرب من 1672م حتى 1727م) إعادة تنظيم جيشه عبر تشكيل قوة خاصة بمعزلٍ عن أبناء القبائل؛ ليضمن أن تدين له فقط بالولاء، لم يجد اسماً يُطلقه على جيشه الخاص خيراً من اسم "عبيد البخاري" أو "جيش البخاري".
بعدما قرّر ملك المغرب تشكيل تلك القوة العسكرية وقف في جمعٍ من قوّاده وقال لهم: "أنا وأنتم عبيدٌ لسُنة رسول الله وشرعه المجموع في هذا الكتاب، فكل أمرٍ نفعله وكل ما نهى عنه نكرهه، وعليه نُقاتل"، فعاهده الحضور على ذلك.
لاحقاً ارتبط ذلك الفيلق القتالي بكتاب البخاري، واعتادوا اصطحابه معهم كلما خرجوا للقتال، وكانوا يقدّمونه في حروبهم، ويدافعون عن النسخة الواحدة منه بمنتهى البطولة والإيمان.
جنود السُلطان
حسبما أوردت بهيجة سيمو في كتابها "الإصلاحات العسكرية بالمغرب"، فإن مولاي إسماعيل (سُلطان المغرب السابع) انخرط في جهودٍ شاقة لبناء دولة مركزية يحميها تنظيم عسكري مُحكم يتبع السُلطان بشكلٍ تام، فسار على النهج الذي ابتدعه شقيقه مولاي رشيد -الذي كان يحكم المغرب قبله- والذي أمر بتعداد "العبيد" في ديوانٍ خاص تمهيداً لإلزامهم بالتجنيد بعد أداء قسم الولاء على كتاب "صحيح البخاري".
بلا شك كانت تجارب مثل جيش "الانكشارية" في تركيا و"المماليك" في مصر حاضرة في ذهنه حينها، معتبراً أن عرشه وعرش العلويين لن يستقيم أبداً عبر الاعتماد على أهل البلاد في القتال وإنما على قوة أجنبية لا تعرف لنفسها هدفاً إلا تحقيق رغبات السُلطان، وكأن حماية الوطن لا تتم إلا بأيدي الغرباء عنه.
لم يعش رشيد ليشهد خروج تلك الفكرة إلى النور، لكن شقيقه إسماعيل فعلها، وخصّص لهم منطقة قُرب مكناس بنى لهم فيها قلاعاً شاهقة، خضعوا داخلها لتدريبات مكثفة في القتال. وإزاء الامتيازات الجمّة التي نالوها تزايدت أعدادهم شيئاً فشيئاً حتى بلغت 150 ألف جندي في أقصى مراحله.
تقول ثريا برادة في كتابها "الجيش المغربي وتطوره في القرن التاسع عشر"، إن أصل عبيد البخاري من السودانيين الذين كانوا في جيوش السعديين الذين أسّسوا دولة حكمت المغرب حتى أزاحهم أبناء عمهم العلويون وسيطروا على البلاد عوضاً عنهم.
وتضيف: لعدة سنين، استمرّ السُلطان إسماعيل في جمع كل العبيد السُود المملوكين للقبائل ولرجال الأعيان. أثارت هذه العمليات صراعاً بين السُلطان وعلماء فاس بسبب معارضة بعضهم لهذه العمليات التي طالت حتى العبيد الذين نالوا حريتهم وأصبحوا من المُلاك، فأمر السُلطان بالتنكيل بالفقهاء المعارضين لأمره، وأشهرهم العالم عبد السلام بن حمدون الذي سُجن ثم قُتل لاحقاً لمعارضته سياسات السُلطان.
أيضاً، جرّد السُلطان حملات عسكرية على تمبكتو (حالياً تقع ضمن حدود مالي) لجلب العبيد من دول إفريقية أخرى كالسنغال وموريتانيا، حسبما ذكر جلول بن قومار في أطروحته "علاقات المغرب الأقصى السياسية والدبلوماسية مع دول ضفتي غرب المتوسط".
كذلك أمّن لهم إسماعيل سلاحاً متطوراً تمثّل في البنادق والسيوف العريضة التي كان يستوردها من أوروبا، كما أخضعهم لبرنامج تدريبي شاق بدأه بعضهم منذ أن كان في الـ10 من عُمره -تماماً مثلما كان يجري في الانكشارية التركية- يتدربون فيها على صناعة القذائف واستخدام المدافع وركوب البغال والخيل، وأخيراً على الرماية.
بهذا التفوّق العسكري، استخدم إسماعيل تلك القوة السوداء الضخمة كهراوة غليظة لتأديب معارضيه السياسيين والقبائل الممتنعة عن أداء الضرائب وتوسيع نطاق سُلطانه، لهذا أفرد لهم رعاية خاصة جعلتهم القوة الأكثر تأثيراً في البلاد.
يقول أحمد الناصري في كتابه "الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى": "بلغوا (جيش العبيد) في أيامه من العز والرفاهية وتشييد الدور والقصور وارتباط الجياد وانتخاب السلاح واقتناء الأموال وحُسن الشارة ما لم يبلغه غيرهم. كانوا في غاية من الكفاية والسِعة".
العبيد يحكمون
بسبب كثرة الامتيازات التي نالها "عبيد البخاري"، أصبحوا القوة المتغلّبة في المغرب عقب وفاة السُلطان إسماعيل، فمنهم خرج كبار الوزراء، والأعوان المُقرَّبون للسُلطان، وقادة الجيش في المدن ورؤساء الحاميات والأمناء على القصور السُلطانية في مكناس وفاس ومراكش.
تقول بهيجة سيمو إن عناصره لم يعودوا يكتفون بكونهم إدارة في السُلطة بل سعوا للسُلطة ذاتها، فأخذت عناصره تنصّب نفسها سادةً مُطلقي النفوذ يُبايعون ويعزلون وينصبون الحكّام على العرش، بعدما أقاموا أنفسهم مجلس وصاية على حُكم البلاد.
نتيجة لهذا عاش المغرب 30 عاماً من الفوضى والحروب الأهلية التي خيّمت بظلالٍ قاتمة على البلاد وكادت تقضي على المملكة العلوية تماماً، أبرز أشكال تلك الفوضى ما جرى مع السُلطان عبد الله بن إسماعيل الذي خُلع 5 مرات على حسب اتفاقه أو اختلافه مع جنود البخاري، الذين انحرف دورهم من قوة لحماية العرش لسبب رئيسي في إسقاط هيبته أمام الناس.
لهذا حينما تولّى السُلطان محمد بن عبدالله زمام الأمر كان على يقين بأن عرشه لن يستقيم أبداً إلا بإضعاف جيش البخاري، فسعى لإقامة علاقات مع القبائل وإقامة قوات جديدة منهم تعينه على كسر شوكة البخاريين، وهو ما دفعهم للثورة عليه عام 1775م.
يقول الشابي: رغم كل ذلك، لم يرتدع هؤلاء العبيد، ولم يستقم أمرهم قط، بل زادوا زيغاً على الدولة، بالرغم من تناقُص أعدادهم وأفول نجمهم وتراجع نفوذهم أمام تزيد بعض الفرق العسكرية الأخرى المُشكلة من رجال القبائل الموالية للعرش. استهتار البخاريين بطاعة الدولة دفعهم للاستخفاف بالأوامر الحكومية في كثيرٍ من الأحيان بل وبأوامر السُلطان نفسها.
لم تنعكس هذه الروح المتمرّدة على البخاريين بالإيجاب بل أثّرت سلباً عليهم وزادتهم ضعفاً على ضعف؛ فكثرت الصدوع في صفوفهم وتشتت العديد منهم بين القبائل والمدن.
رغم ذلك فإنهم لم يخرجوا تماماً من المشهد، فعقب تولّي السُلطان عبدالرحمن حُكم المغرب سعى للمِّ شتات عبيد البخاري من جديد، وكتب السُلطان إلى قائده العسكري عبد السلام السلوى قائلاً: "من أهم المسائل لدينا هي جمع عبيد البخاري المتفرقين في قبائل الجبل والغرب وغيرهم، لمسيس الحاجة إلى ذوي الأصالة منهم الباقين على سذاجة البداوة".
حتى بدأت المناوشات العسكرية بين المغرب وفرنسا عام 1844م إبان عهد السلطان عبد الرحمن. وكان التدخل الفرنسي فارقاً في المشهد المحلي والعسكري بالمغرب.
ضد الفرنسيين
بسبب مساعدة سُلطان المغرب للمقاوِم الجزائري الشهير الأمير عبد القادر هجم الفرنسيون على أراضي المغرب، واشتبكوا معهم في معركة إسلي بالقرب من مدينة وجدة.
انتهت المعركة بهزيمة ساحقة للمغرب وإجباره على توقيع معاهدة مُذلة تنازل بموجبها عن مساحات من أرضه وتعهّد بالكفِّ عن مُساعدة الجزائريين. رغم الهزيمة فإنها شكّلت آخر محاولة لإعطاء قبلة الحياة لـ"عبيد البخاري".
فقبيل المعركة، وعَى السُلطان عبد الرحمن لضعف قواته العسكرية فسعى لاستغلال القدرات القتالية للعبيد فأمر بإعادة تجميعهم وتدريبهم واستغلالهم في حربه ضد الفرنسيين.
بحسب كتاب بهيجة، فإن السُلطان ظلَّ ينظر بالريبة إلى تلك القوة التي أمر بإعادة تدشينها بسبب سابق تاريخهم الأسود في التدخل بالسياسة. لم يمنع هذا من محاولات إعادة تأهيلهم، وخلال اشتباكات 1844م كانوا القوة الوحيدة التي أبدت كفاءة قتالية أمام الفرنسيين، إذ أظهروا شجاعة نادرة واستبسالاً في الميدان أكثر من أي فصيل آخر تألّف منه الجيش المغربي.
خدم القصور
عقب الهزيمة أمام الفرنسيين، غيّر السُلطان محمد بن عبد الرحمن وسلفه الحسن الأول من عقيدة الجيش المغرب، وبدأ في تبنّي النهج الغربي عبر تجنيد السكان من كل مدينة؛ ففُرض على فاس تقديم 500 رجل وعلى كل ميناء 200 فرد و600 مقاتل من الرباط، وبذلك بغرض تكوين جيش دائم وطني مدرّب على أحد الأساليب القتالية.
وهكذا لم يعد نشاط التجنيد ولا المجهود الحربي قاصراً على القبائل ولا على رجال البخاري، ما أضعف من قوتهم الاجتماعية شيئاً فشيئاً.
لم يعد السُلطان محمد يعتمد على "رجال البخاري" ككتائب حربية وإنما راح يستخدمهم كمُدرِّبين عسكريين وكحرسٍ خاصٍ له. يقول عبد الحق المريني في كتابه "الجيش المغربي عبر التاريخ"، إن السُلطان عبد الرحمن بعث 30 فرداً من جيش البُخاري إلى مصر -في عهد الخديوِ إسماعيل حينها- لتعلُّم خطط الجهاد والفنون الحربية والمدفعية.
ويؤكد مصطفى الشابي في كتابه "النخبة المخزنية في مغرب القرن الـ19″، أن صِلة المقاتلين السود بسلاطين المغرب لم تنقطع حتى بعد تضاؤل دورهم العسكري إلى أقصى حد، فظلَّ "الحرس الأسود" (= أحفاد "عبيد البخاري") للسُلطان إحدى العلامات المميزة للبلاط المغربي. وبسبب تفانيهم في خدمة السلاطين وقدراتهم المميزة في تقديم المشورات المميزة لهم، ما جعلهم أصحاب حظوة دائماً عند ملوك المغرب الذين رفضوا مراراً وتكراراً الاستجابة لمطالب الغرب بتجريم الرق.
تقول ثريا برّادة: إنه بحلول القرن الـ19 فقد جيش البخاري كثيراً من عدده ومميزاته، وأصبح ضعيفاً لا تقيم له القبائل وزناً ولا يحتفظ به السُلطان إلا بشكلٍ محدود يكفل له توازناً مع باقي العناصر الأخرى المكوّنة للجيش، وأصبحت أغلب مهامه دفاعية كحماية القصر أو السُلطان ذاته، وهي المهام التي استمرّوا عليها حتى تخلّى عنها المغرب تدريجياً، وغاب ذِكرهم في عصرنا الحالي إلا من شكاوى متكررة من أصحاب البشرة السمراء في المغرب بأنهم عادةً ما يوصمون بـ"أحفاد العبيد" في إشارة لماضي أجدادهم الذين ساهموا في تأسيس المملكة قديماً لكنه لم يعد مرحباً به كثيراً في العصر الحالي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.