يطل شهر أيلول 2022 باستحقاقات محلية وإقليمية ودولية دسمة و"مصيرية" كالعادة، وإن أصبحت كلمة مصيرية مبتذلة ومكررة أقله منذ عقود في هذه المنطقة من العالم.
لبنانياً، تدخل البلاد دستورياً في المدة التشريعية لانتخاب رئيس عتيد للجمهورية، بعد مخاض أقل ما يقال عنه بأنه عسير للغاية وجحيم لا يوصف منذ العام 2016، مروراً بالانهيار النقدي في العام 2019 والمستمر إلى الآن.
يفتح باب الأسئلة والتحليل على مصراعيه، من جدية فتح الندوة التشريعية ودعوة رئيس المجلس نبيه بري البرلمان إلى الانعقاد مبكراً؛ حيث يسمح له الدستور ذلك ابتداء من 1 يونيو/أيلول، إلى جدية الأحزاب والأطراف الداخلية والخارجية بانتخاب رئيس، وصولاً لكيفية إدارة مرحلة انتقالية قد تطول وجدلية من يحكم بين فريق رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ومن يدعمه علناً وخلف الستار، وفريق التيار الوطني الحر بقيادة جبران باسيل ومن يدعمه من تحت الطاولة بعد ذهاب الجنرال ميشال عون إلى تقاعد رسمي في الرابية.
مهما قيل وسيقال، فرئيسا الجمهورية والوزراء في لبنان لا يأتيان إلا بتوافق إقليمي ودولي وكذا رئاسة مجلس النواب وإن كانت طوبت بشكل غير رسمي بتوازنات محلية وخارجية لنبيه بري إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
وعليه، وبما أن أي صيغة نهائية للاتفاق النووي بين إيران والغرب لم تتبلور بعد فالانتخابات الرئاسية مؤجلة والأرجح أننا أمام تصريف أعمال طويل. من هنا يعمل رئيس الحكومة على "شد براغي" حكومته من خلال تعديلات تستهدف استبدال وزراء الاقتصاد والطاقة والمهجرين.
ويبدو ميقاتي محقاً هنا، رغم الفشل المرافق لعمل حكومته "معاً للإنقاذ"، فالدستور واضح هنا بتسيير الحكومة مجتمعة لصلاحيات رئيس الجمهورية وصلاحيتها هي الأساسية بحال الفراغ الرئاسي، مهما "تفزلك" مستشارو القصر وداعمهم الأساسي والوحيد حزب الله.
محلياً أيضاً، يبرز ملفان مهمان؛ هما هيستيريا الانهيار الاقتصادي-المعيشي وهو الأهم لعامة الناس، وترسيم الحدود البحرية مع العدو الإسرائيلي، وهنا وللأسف يتداخل المحلي بالإقليمي والدولي.
الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الخانقة من المرجح أن تستمر وتتمدد بعد ثلاث سنوات من الترقيع وغياب الحلول وتناقضات السلطة السياسية والنقدية بالرؤية والتنفيذ. يستطيع المراقب أن يلاحظ سرعة التدهور النقدي من منتصف أغسطس/آب -والمغتربين ما زالوا في لبنان يصرفون بالعملة الخضراء- فالدولار لامس الـ 35 ألف ليرة قبل أن يتراجع قليلاً إلى قرابة الـ 33 ألفاً مقابل الدولار الواحد.
هذا لأن حاجة السوق ما عادت تكفي لدولارات المغتربين ولا لـ"منصة صيرفة" والتي ثبتت هذا الدولار اصطناعياً أو فرملت انهياره بالحد الأدنى ولكن من أموال المودعين أو عبر تحويلات المغتربين مجدداً والتي تصرفها شركات التحويل المالي وتبيعها إلى المصرف المركزي.
في شق الترسيم، لا تزال نتيجة الوساطة الأمريكية غامضة نسبياً بعد زيارة الوسيط الأمريكي أموس هوكستين الأخيرة إلى لبنان ومن ثم إسرائيل. لكن المؤكد هو شيء واحد بأن إسرائيل مستعجلة على بيع الغاز إلى أوروبا لتكون بديلاً جزئياً للغاز الروسي، والولايات المتحدة موافقة ضمناً، ولكنها تتريث في الإعلان عن ذلك لأنها لا تريد أن تبيع موقفاً مجانياً للفريق الحاكم في لبنان أي الثنائي الشيعي والتيار الحر بالإضافة إلى انتظارها نتائج انتخابات الكنيست وإعادة ترتيب البيت الداخلي الإسرائيلي. بناء على ذلك نستطيع أن نميل إلى التفاؤل الحذر بهذه القضية بعيداً عن نقاش خطي الـ 23 والـ 29، فما قد بيع قد بيع للأسف، ولقد قال طرفا التفاوض أي الدولة وحزب الله ما قالاه للوسيط الأمريكي. عليه فإن أي تأثير إيجابي على أزمتنا الاقتصادية لن يكون قريب المدى بموضوع الغاز.
النووي الإيراني والشتاء الأوروبي
على ضفة مفاوضات فيينا، وبعد فترة من الركود تصاعدت بعد المؤشرات عن بنود أولية عرضت من المجموعة الأوروبية على الجانب الإيراني ولم ترفض بالحد الأدنى من الأخير ولا من الأمريكيين. فبحسب قناة الجزيرة، تتضمن عملية إعادة تفعيل اتفاق 2015 مع إدارة أوباما، خطة زمنية من 4 مراحل وفترتين زمنيتين (تتألف كل واحدة من 60 يوماً).
أبرز ما سينتج عن الاقتراح المقدم هو الإفراج عن 7 مليارات دولار من أموال إيرانية مجمدة في الخارج، رفع العقوبات عن 17 مصرفاً و 150 كياناً اقتصادياً إيرانياً، والأهم السماح لإيران بتصدير 2.5 مليون برميل نفط يومياً، وهنا نعود إلى بدائل الغاز الروسي والذي يلهث الغرب لتأمينه قبل الشتاء القادم. مقابل ذلك على إيران أن تتراجع تدريجياً عن خطواتها النووية باليوم الذي يلي توقيع الاتفاق.
بالوقت الضائع تبقى منطقة الشرق الأوسط ساحة تجاذب وتصعيد بين طرفي اللعبة الأساسيين؛ إسرائيل وإيران، ومن خلفهما الحكم والشرطي الرقيب أي الولايات المتحدة. المراقب لحال العراق الذي ربط أو ارتبط مساره بمسار لبنان، يرى الرسائل المتبادلة بين حلفاء إيران أنفسهم أي ما يعرف بالإطار التنسيقي الشيعي من جهة ومقتدى الصدر من جهة أخرى.
فالأخير الذي رسم لنفسه منذ قرابة الثلاث سنوات خطاً خاصاً وفتح قنوات اتصال مع المملكة العربية السعودية رقم بقاء علاقته مقبولة مع إيران، لم يتمكن أن يحكم رغم حصوله على الكتلة الأكبر إلى جانب المستقلين في الانتخابات العراقية الأخيرة. بالرغم من كل ما قيل وكتب عن المحادثات السعودية الإيرانية التي جرت في العراق تحديداً وبوساطة وإشراف من رئيس الحكومة العراقية رجل المخابرات السابق ونقطة التقاطع الإيرانية السعودية الأمريكية مصطفى الكاظمي، لا يبدو بأن إيران ستسلم بالنتائج الأخيرة ولن ترضى بحكم وحكومة ترتاب منهما ببلاد الرافدين.
في سوريا، لا يكاد يمضي أسبوعان بدون ضربة إسرائيلية على مواقع إيران وأذرعتها في دمشق وضواحيها، أو في الساحل كما جرى قرب طرطوس مؤخراً على الرغم من قرب قاعدة حميم الروسية، أو في بادية دير الزور، وصولاً إلى مطاري حلب ودمشق. يفتح ما سلف سؤالاً يطرحه الكثيرون هنا عن إمكانية حرب شاملة بين إسرائيل وإيران. ما نستطيع تأكيده أن طرفي النزاع ليسا متحمسين للحرب لأسباب داخلية، فإسرائيل تتخبط وتتجه لانتخابات جديدة، وإيران لا تريد أن يموت الاتفاق النووي قبل أن يحيا. لكن طرف واحد قد يريد الحرب وهو روسيا، وهنا يبرز تناقض غير مألوف بين روسيا وإسرائيل، فروسيا تريد أن تجفف بدائل غازها ومنها غاز إسرائيل، وبالوقت عينه قد تشتت حرب كبرى في الشرق الأوسط الأنظار عن حربها في أوكرانيا التي أتمت نصف عام. يمنياً تبدو الهدنة قائمة ولكن إلى متى؟ يصعب الإجابة عن هذا السؤال بانتظار الأشهر والأيام المقبلة.
غير بعيد عن صراع الغاز والمصالح والنفوذ في الشرق الأوسط، تدخل أوروبا الشهر الأخير من صيف وصف بالأقصى منذ عقود، مستعدة لشتاء قد يكون الأقصى منذ قرون.
في نهار الأربعاء 31 أغسطس/آب، قامت روسيا بوقف العمل بخط نورد ستريم 1 "لأسباب تقنية" برسالة زكزكة إلى الأوروبيين. الأوروبيون الذين حضروا شعوبهم لتقنين استخدام الغاز ورفعوا الأسعار، يبدو مربكين أكثر من أي وقت مضى، ولا تتخيل دول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا كيفية التعايش مع الأزمة الناشئة ليس فقط اليوم بل في السنوات القادمة، كما يجزم خبراء الطاقة وكبار الاقتصاديين. بالوقت عينه نرى تأثير الحرب الروسية في أوكرانيا أقل تأثيراً على الولايات المتحدة الأمريكية من ناحية الطاقة والمحروقات أو باقي سلاسل التوريد من حبوب وغيره. من هنا يبرز امتعاض أوروبي من دول كبرى كفرنسا التي ترفض بشكل علني قطع العلاقات كلياً مع الروس وتبقي باب التفاوض مفتوحاً معهم. دول أوروبية صغرى ومنها المجر أبقت على استيراد الغاز الروسي ودفعت بالروبل. وحدها الأيام ستثبت كيف سيكون الشتاء القادم في القارة العجوز، وهل الهدف الرئيسي من الحرب الروسية الأوكرانية هو توجيه ضربة قاسمة للروس ولفكرة الاتحاد الأوروبي والوحدة الأوروبية معاً من قبل أمريكا؟
لنرَ ما ستؤول إليه الأمور في أيلول المبلول وبعده.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.