بعد 25 عاماً من خفض التمثيل الدبلوماسي للولايات المتحدة في السودان من سفيرٍ إلى قائمٍ بالأعمال، وصل إلى الخرطوم، يوم الأربعاء، جون جودفري، لتسلم منصبه سفيراً للولايات المتحدة في السودان.
ووفقاً لبيانٍ أصدرته السفارة الأمريكية بالخرطوم، نُشر في صفحتها الرسمية على موقع فيسبوك، فإن "جودفري وبصفته ممثلاً بارزاً للحكومة الأمريكية سيعمل على تعزيز العلاقات بين الشعبين الأمريكي والسوداني ودعم تطلعاتهم إلى الحرية والسلام والعدالة والانتقال الديمقراطي، كما أنه يتطلع إلى النهوض بالأولويات المتعلقة بالسلام والأمن والتنمية الاقتصادية والأمن الغذائي".
بينما كتب السفير الجديد في صفحته على تويتر: "يسعدني الوصول إلى السودان. إنني أتطلع إلى تعميق العلاقات بين الأمريكيين والسودانيين ودعم تطلعات الشعب السوداني إلى الحرية والسلام والعدالة والانتقال إلى الديمقراطية".
سنتحدث في هذه المقالة عمّا يعنيه هذا التطور الأمريكي وما إذا كان دعماً لانقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول أو اعتراف به كما اعتبر البعض، لكن قبل ذلك سنتطرق إلى كيفية تدهور العلاقات الأمريكية-السودانية إلى درجة خفض العلاقات الدبلوماسية لمدة ربع قرن.
سياسات البشير أدخلت السودان في قائمة الإرهاب
بداية، السياسات الداخلية والخارجية التي تبناها نظام الرئيس السوداني المخلوع عمر البشير "1989 – 2019" تسببت في عزلة دولية طويلة عاشها السودان مع المجتمع الدولي، بعد أن تحوّلت الخرطوم إلى مركز لجماعات وشخصيات مصنفة إرهابية، من بينها أسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة، الذي أقام في السودان بين عامي 1992 إلى 1996، وإلى جانب استضافة نظام البشير لشخصيات متطرفة، تبنّى النظام وأنصاره شعارات متطرفة معادية للولايات المتحدة وللغرب عموماً.
الشعبوية والتخبط السياسي ظلّا ديدن الحكومات المتعاقبة التي شكلها البشير منذ انقلابه في عام 1989 بتحالفٍ مع الجبهة الإسلامية بقيادة حسن الترابي، فعلى سبيل المثال قام بمنح اللجوء السياسي للإرهابي العالمي كارلوس، وأتاح الفرصة أمام زعيم القاعدة أسامة بن لادن للإقامة والاستثمار في السودان، كما أعلن نظام البشير وقوفه مع العراق في غزوه الكويت، ومعارضته التدخل الأمريكي في المنطقة، ما دفع الولايات المتحدة إلى تعليق كل مساعداتها للسودان، قبل أن يزداد تدهور العلاقات بين البلدين بشكل تدريجي.
فبعد عام واحد من استضافة نظام البشير لأسامة بن لادن، وضعت الولايات المتحدة اسم السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب، وفي العام 1997 فرضت واشنطن عقوبات اقتصادية وتجارية ومالية شاملة على السودان، كما اتخذت الولايات المتحدة قراراً بخفض تمثيلها الدبلوماسي في السودان من سفير إلى قائم بالأعمال، حيث بقي التمثيل الدبلوماسي الأمريكي مخفضاً في الخرطوم طيلة 25 عاماً.
وبسبب انتهاكات نظام البشير ضد المدنيين خلال حرب دارفور التي اندلعت في العام 2003، فرض الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن عقوبات اقتصادية جديدة على السودان في مايو/أيار 2006، حظرت بموجبها أصول المواطنين السودانيين المتورطين في أعمال العنف في دارفور، وفرضت أيضاً عقوبات على شركات إضافية تملكها أو تسيطر عليها حكومة السودان.
شكّل سقوط نظام البشير عام 2019 نقلةً نوعيةً في العلاقات بين البلدين، إذ قام رئيس الوزراء السوداني السابق عبد الله حمدوك، في ديسمبر/كانون الأول 2019، بزيارة رسمية إلى الولايات المتحدة استغرقت 6 أيام أجرى خلالها مباحثات رسمية مع المسؤولين في واشنطن، تركزت على عملية إزالة اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وإبعاد شبح العقوبات الدولية التي يخضع لها السودان منذ عام 2006، بسبب الحرب في إقليم دارفور غربي البلاد.
خلال زيارة حمدوك، أعلن مايك بومبيو وزير الخارجية الأمريكي السابق أن بلاده سترفع التمثيل الدبلوماسي مع الخرطوم إلى مستوى السفير، لكنّ إدارة الرئيس السابق ترامب لم تتخذ قراراً بترشيح سفير للخرطوم طيلة العام 2020، إلى أن أعلن البيت الأبيض في عهد الرئيس الحالي جو بايدن عن ترشيح جون غودفري القائم بأعمال مبعوث مكافحة الإرهاب في وزارة الخارجية، لشغل منصب السفير الأمريكي في السودان.
من هو السفير جون غودفري؟
تقول السيرة الذاتية للسفير غودفري، إنه حاصل على درجة البكالوريوس من جامعة كاليفورنيا ودرجة الماجستير في دراسات الشرق الأوسط من جامعة ميشيغان، يتحدث اللغة العربية بطلاقة، قَبْلَ ترشيحه سفيراً للسودان شغل غودفري منصب القائم بأعمال منسق مكافحة الإرهاب، والمبعوث الخاص بالإنابة للتحالف العالمي لمكافحة تنظيم "داعش" في مكتب مكافحة الإرهاب في وزارة الخارجية الأمريكية.
كما شغل جون غودفري منصب المستشار السياسي في سفارة الولايات المتحدة في الرياض، ورئيساً لموظفي مكتب نائب وزير الخارجية، وعمل كذلك مستشاراً سياسياً واقتصادياً في سفارة الولايات المتحدة في عشق آباد، تركمانستان، إضافة إلى عمله مسؤولاً سياسياً في سفارة الولايات المتحدة في دمشق.
أما تفسير وصول سفير الولايات المتحدة إلى الخرطوم في هذا التوقيت بأنه يعد دعماً لانقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول أو اعترافاً به، فإنه كلام غير منطقي، ذلك لأن إدارة بايدن ناقشت ترشيح غودفري ليكون سفيراً لواشنطن في الخرطوم قبل انقلاب البرهان بنحو 3 أشهر.
إذ كشفت مجلة "فورين بوليسي" في 30 يوليو/تموز 2021 أن "جون جودفري، القائم بأعمال مبعوث وزارة الخارجية الأمريكية لمكافحة الإرهاب والدبلوماسي المخضرم في الشرق الأوسط، هو المنافس الرئيسي ليكون أول سفير أمريكي في السودان منذ عام 1996، عندما قطعت الولايات المتحدة العلاقات الدبلوماسية مع السودان بسبب دعمه للقاعدة وغيرها من الجماعات الإرهابية".
لسنا في حاجة للتذكير بأن إجراءات اعتماد سفراء الولايات المتحدة إلى العالم تتطلب وقتاً طويلًا، إذ يتم ترشيح أي سفير أمريكي جديد إلى دولةٍ ما، بالتشاور بين وزارة الخارجية والبيت الأبيض، ثم يقوم الأخير بإرسال اسم المرشح إلى مجلس الشيوخ، ليخضع السفير المرشح إلى مناقشة مطولة مع لجنة العلاقات الخارجية، يتم خلالها الاستماع إلى رؤيته للعلاقات مع الدولة التي سيتم إرساله إليها، وفي حال أجازت لجنة العلاقات الخارجية ترشيح السفير فإنه بحاجة إلى مصادقة أخرى من مجلس الشيوخ بكامل عضويته، وهذه العملية الطويلة هي التي تسببت في تأخير وصول السفير غودفري إلى الخرطوم، إذ استغرقت هذه الإجراءات أكثر من عام.
كما أن القول بأن تسليم أوراق اعتماد السفير الأمريكي لقائد انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول يعد اعترافاً أمريكياً بعبد الفتاح البرهان فذلك في غير محله أيضاً، نسبة لأن جميع السفراء والمبعوثين الدوليين كانوا يجتمعون مع البرهان منذ الانقلاب باعتبار أنه يمثل سلطة الأمر الواقع.
بل على النقيض من ذلك، كثيراً ما وُجّهت انتقادات للإدارة الأمريكية بأنها تقاعست عن دعم الحكومة المدنية المنقلب عليها، بسبب تأخر واشنطن في ترشيح واعتماد سفيرها إلى السودان، منذ أن صرّح الوزير السابق بومبيو قبل أكثر من عامين، بأن الولايات المتحدة قررت رفع التمثيل الدبلوماسي مع السودان إلى درجة سفير، فكلما كان حجم التمثيل الدبلوماسي رفيع المستوى دلّ على اهتمام الولايات المتحدة بالسودان، ومنحها مجالاً أفضل للضغط على المجلس العسكري.
فضلاً عن ذلك، تصريحات غودفري نفسه تصب في اتجاه دعم التطلعات الديمقراطية للشعب السوداني، فقد أكّد خلال جلسة الاستماع التي عقدها مجلس الشيوخ للمصادقة عليه الشهر الماضي، أن "استئناف المساعدات التنموية للسودان مرتبط بحصول عملية انتقال ديمقراطية بقيادة مدنية وموثوق بها"، مضيفاً أن الولايات المتحدة "ستستعمل كل الأدوات لدعم الشعب السوداني في سعيه إلى سودان ديمقراطي ومزدهر تُحترم فيه حقوق الإنسان".
ورداً على سؤال للسيناتور الديمقراطي كريس كونز، الذي طرح مشروع قانون لمعاقبة قيادات المجلس العسكري السوداني، لم يستبعد السفير المرشح فرض عقوبات من هذا النوع، فقال: "العقوبات هي أداة مهمة بحوزتنا للكشف عن الأسماء المتورطة، والدفع باتجاه تغيير المواقف.. وقبل أن أوصي بعقوبات محتملة أريد أن أدرس وطأتها على تصرفات قادة الجيش وعلى مواردهم المالية، وتأثيرها على الاقتصاد السوداني، وكيف سترتبط مع استراتيجيتنا الدبلوماسية بشكل عام، بما فيها المسار المُسهّل أممياً".
إذاً، ستكون الفترة المقبلة حاسمة تحدد طبيعة الخطوات والأدوات التي سيستخدمها السفير الأمريكي الجديد للسودان، للضغط على قادة انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول، فالقائمة بالأعمال الأمريكية السابقة بادرت الشهر قبل الماضي بجمع قادة الانقلاب والمدنيين في طاولة حوار واحدة لأول مرة.
وغير مستبعد أن يوصي غودفري بفرض عقوبات على قادة الانقلاب إذا استمرّ تعنتهم وواصلوا سياسة التسويف والمماطلة، فخلال جلسة المصادقة عليه الشهر الماضي، أشاد السفير بالعقوبات التي فرضتها الإدارة الأمريكية على شرطة الاحتياطي المركزي السودانية، مؤكداً ضرورة "النظر في تدابير أخرى".
مَن الشخصية الأمريكية التي ينبغي أن يقلق منها السودانيون؟
فيما يتعلق بالإدارة الأمريكية الحاليّة فإن الشخصية الوحيدة التي ينبغي أن يقلق منها السودانيون المؤيدون للديمقراطية هي السفيرة "مولي كاثرين في"، التي تشغل منصب مساعدة وزير الخارجية الأمريكية للشؤون الإفريقية، وتُدير في الوقت ذاته مكتب إفريقيا في وزارة الخارجية الأمريكية.
هذه الشخصية متصالحة جداً مع الأنظمة الديكتاتورية، فطوال سنوات خدمتها سفيرةً لبلادها- في جنوب السودان وقبلها في إثيوبيا، ونائبةً عن ممثل واشنطن في الأمم المتحدة جون بولتون- لم تعبر عن دعمها قط لحقوق الإنسان أو للديمقراطية، وحتى بعد أن تولّت في عهد الرئيس بايدن منصب مساعدة الوزير للشؤون الإفريقية ظلّت مواقفها أقرب إلى دعم قادة الانقلاب في السودان.
ليس هذا فحسب، بل إن مولي تسببت-وفقاً لمجلة فروين بوليسي– في استقالة المبعوث الأمريكي الأسبق إلى القرن الإفريقي جيفري فيلتمان، بسبب عرقلتها توصياته بفرض عقوبات على قادة انقلاب السودان، ما أدى إلى استقالة فيلتمان في نهاية المطاف احتجاجاً على إصرار مولي على استبعاد العقوبات وتبنيها سياسة الجزرة مع عسكر السودان، حيث أثبتت الأيام فشل هذه السياسة، كما أن مساعدة الوزير لا تزال مستمرة في دعم الأنظمة الديكتاتورية الأخرى في المنطقة والتغطية على جرائمها، وهو ما تسبب لها في انتقاداتٍ لاذعةٍ من قبل دبلوماسيين سابقين وخبراء في الشأن الإفريقي، مثل كاميرون هادسون المسؤول السابق في البيت الأبيض:
ربما تصطدم جهود السفير الأمريكي الجديد في الخرطوم غودفري الذي تعهّد بـ"دعم تطلعات الشعب السوداني إلى الحرية والسلام والعدالة والانتقال إلى الديمقراطية"، مع مولي كاثرين المتساهلة مع العسكر، حينها سيتوقف الأمر على نفوذ غودفري وعلاقاته- التي قيل إنها قوية مع وزير الخارجية بلينكن- وهل بإمكانه التغلب على مساعدة الوزير "في" التي تسببت في استقالة المبعوث الخاص فيلتمان أم لا.
أخيراً، وبشكلٍ عامٍّ فإن ترشيح واعتماد السفير الأمريكي إلى السودان يُمكن أن يدعم الإستراتيجية الأمريكية تجاه إفريقيا جنوب الصحراء، التي أعلنها وزير الخارجية أنتوني بلينكن الأسبوع قبل الماضي، حيث تسعى الولايات المتحدة إلى استعادة مكانتها في القارة في أعقاب تمدد منافسين جدد مثل الصين وروسيا.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.