في حفل تخرج دفعة طب الأزهر في محافظة أسيوط، بصعيد مصر، وبينما الطلبة والطالبات يرتدون ثوب التخرج الثمين، ذلك الذي أنفقوا لأجله سبع سنوات من أعمارهم، ومن داخل القاعة التي حملت أمنيات وآمال الجمع الشاب، ظهرت الدكتورة شيرين غالب، نقيبة الأطباء بنقابة القاهرة الفرعية بابتسامة طيبة جداً على المنصة، ورفعت يدها لتقول: "كلمة بس للطبيبات الجمال اللي متخرجين النهارده، انتي بيتك ثم بيتك، أولادك، وبعدين مهنتك". هناك اشتعلت القاعة بالتصفيق الحار قبل أن تستكمل بمنتهى اللطف: "إوعي حد يقولك مهنتك قبل ولادك، حضرتك لو قعدتي في البيت في مليون طبيب بره يعالج لكن لو سيبتي ولادك مالهمش غير أم واحدة هو انتي..".
قبل أن أرى مقطع الفيديو الذي تحول إلى ترند كنت أتأمل مشكلة طرحتها إحدى السيدات عبر واحدة من أكبر مجموعات الإجابة عن الأسئلة في مصر، حيث كتبت تستفسر عن مستقبلها، بعدما ودعت مسارها العملي قبل سنوات في سبيل تربية الأولاد، وتساءلت: "هل ممكن أعرف أشتغل بعد سن الـ38 ولا خلاص كده ضاع التعب اللي فات ده كله!"، الحق أنه قد تعددت الإجابات، فما بين كثيرين قالوا ما زال هناك أمل كي تستأنف حياتها، جاءتها إجابات أكثر أن تلتزم بحديث الدكتورة شيرين غالب وأنه ليس للمرأة سوى البيت والأولاد والزوج مهما على شأنها وبلغت مبلغها من التعليم والموهبة.
حديث "مستفز"
الحق أن الشعور بالاستفزاز من حديث النقيبة، طال مغردين وشخصيات عامة عديدة، لكن الهجوم عليها أيضاً بدا مستفزاً للكثيرين ممن اعتبروا ما حدث "ظلماً" وأنه "اجتزاء" لكلمة مدتها 20 دقيقة، لم يظهر منها سوى الجزء الأخير، لذا أصدرت حملة باسم "مصيرنا واحد" بياناً رسمياً تعلن فيه تضامنها مع الطبيبة، وخرج الدكتور جمال شعبان، العميد السابق لمعهد القلب القومي، ليؤكد بدوره أنها سيدة ناجحة على المستويين العملي والنقابي بالإضافة إلى نجاحها الأسري، وأنه لا يجب اجتزاء كلمتها.
لماذا أغضبني حديث طبيبة السموم؟
كنت قد كتبت مقالاً سابقاً أيهما أفضل للمرأة العمل أم الجلوس بالبيت خلصت فيه عبر تجربتي- الخاصة- إلى الاستقالة والمكوث في البيت، لأسباب تخص تجربتي، وبالرغم من التشابه الشكلي بين النصيحتين، إلا أن الفارق عظيم بين تعميم النصيحة على قطاع عملي بعينه، وبين تجربة خاصة قد تكون ملهمة لأحدهم ولا تكون كذلك للآخرين!
بمناسبة ومن دون مناسبة صارت "الميمز" و"القفشات" حول دور قاسم أمين في توريط السيدات، هكذا تتندر الشابات عبر صفحاتهن الخاصة بمواقع التواصل وفي الجلسات الخاصة على ذلك الرجل الذي كان سببها في نزولهن من البيت ليتحولن إلى "سترونج إندبندنت وومان".
حين سمعت حديث أستاذ الطب الشرعي والسموم للمرة الأولى، شعرت بمشاعر متضاربة، ربما لأنها تحدثت عن العمل باعتباره "اختيار" أمام جمع من الطالبات اللائي تؤمن عائلاتهن كباقي المصريين أن "الشهادة في يد المرأة سلاح" يقيها غدر الزمان وتقلبات الشريك، وربما لأنها أغفلت أن 30% من الأسر المصرية تعتمد مادياً على النساء المالية في ظل غياب الرجل، حيث تضطلع المرأة بجميع الأعباء المادية والمعنوية، هذا بالنسبة للتقديرات المعلنة، فهل حاولت الدكتورة شيرين أن تتخيل النسب الحقيقية؟
عمل المرأة في مصر لم يعد رفاهية، فبالحديث عن الـ70% الباقية، يمكن فهم أحوالهم بالنظر أنباء التعويم المحتمل والتراجع المتواصل للجنيه أمام الدولار، هناك يبرز السؤال، هل المرأة بحاجة إلى نصيحة بشأن أولوياتها أم أنها بحاجة لعين ترى الوضع المأساوي قانوناً وحقيقة لها في سوق العمل، حيث الكثير من العقبات التي لم تبد حاضرة في ذهن الدكتورة شيرين.
بالحب أم بالقانون؟
في سوق العمل المصري ثمة طريقتان للتعامل مع الموظفين "بالحب" و"بالقانون"، أما القانون فهو ينص مثلاً في المادة رقم 94 أنه يجب على صاحب العمل أن ينشئ دار حضانة في حالة وجود مئة عاملة أو أكثر في مكان عمل واحد لرعاية أطفالهن مع تحديد شروط دار الحضانة، فهل تشرف وزارة القوى العاملة على تنفيذ هذه المادة بالذات والتي تقف وراء عذاب آلاف الأمهات اللائي يضطررن إلى اقتطاع نصف رواتبهن أحياناً من أجل دفعها إلى دور حضانة قريبة، في الواقع كان هذا هو أحد أسباب استقالتي في العام 2020، حين أردت العودة من إجازة وضع وحاولت العثور على دار حضانة قريبة من عملي لأكتشف أنه علي أن أدفع أكثر من نصف راتبي كي أحافظ على عملي!
في الواقع يؤكد الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة على قواعد تنفيذية أصدرها رئيس الجهاز رقم 155 لسنة 2022 بشأن موانع الترقية والتي ليس من بينها إجازة الوضع أو إجازة رعاية الطفل، أو الإجازة المرضية، لكنني تذكرت فوراً زميلتي التي عملت في مؤسستها الصحفية لعشر سنوات متتالية، حصلت خلالهما على أربع إجازات تنوعت بين الوضع ورعاية الطفل، فبقيت على درجتها طوال السنوات العشر دون ترقية واحدة تذكر، لا تزال دموعها وهي تحكي لي تحضرني: "أصبحت مساوية للمتدربين الجدد، القديم كالجديد لا فارق، 10 سنوات كسنة واحدة، حجتهم أنني كثيرة الإجازات".
الموت للطبيبات.. ترتيب أولويات أم تعديل نظام
اعتبر البعض كلمات الدكتورة شيرين بمثابة "قتل نفسي" كما ذكر الطبيب النفسي الشهير محمد طه عبر صفحته الشخصية حيث كتب: "اللحظة اللى هاتحس فيها أي أنثى في هذا الجزء من العالم، أنها ناجحة، أو مستقلة، أو حرة، هي نفس اللحظة اللي هايسلمها فيها أحدهم (أو إحداهن) حقيبة ضخمة بالية متوارثة عبر الأجيال.. مليئة بالخوف/التخويف.. والإحساس بالذنب/التقصير، نفس اللحظة، عن حفل تخرج الطبيبات، وغيره".
لكن يبقى السؤال هل تحتاج الطبيبات حقاً إلى نصيحة بترتيب الأولويات على طريقة الدكتورة شيرين أم إلى تعديل اللوائح وتفعيل القوانين؛ تجنباً لموت المزيد من الأطباء، الرجال منهم والنساء، تنص المادة رقم 90 من قانون العمل المصري رقم 12 لسنة 2003 على 30 مهنة محظورة على النساء، فضلاً عن تحديد أنواع الأعمال التي يمكن أن تعملها النساء دون أن تضر بالمرأة صحياً أو أخلاقياً، وعلى الرغم من أن مهنة الطب من المهن المسموحة، إلا أن اللوائح والقوانين ذاتها وقفت عائقاً في وجه الكثير من الطبيبات والصيدلانيات اللائي حاولن التوفيق بين وظائفهن وعائلاتهن فقتلهن الإجهاد، من بين هؤلاء الطبيبة الشابة نورا العبد، أخصائي النساء والتوليد بمستشفى الشهداء المركزي في محافظة المنوفية، والتي توفيت بأزمة قلبية مفاجئة يوم 22 أغسطس/آب الماضي، صحيح أنها الأحدث من بين الوفيات لكنها لم تكن الوحيدة.
لن أنسى أبداً الكلمة الأخيرة للصيدلانية الشابة إسراء سامي، الشابة التي حاولت التوفيق بين بيتها وعملها في مستشفى الأحرار بمدينة الزقازيق في محافظة الشرقية، فلم تفرط في عملها، كما لم ترغب في التفريط في طفلها الذي تحمله في أحشائها، لكنها ماتت في النهاية بسبب "التعنت في منحها إجازة مرضية رغم إصابتها بفيروس كورونا".
"أنا بموت.. إنا لله وإنا إليه راجعون" هكذا كتبت إسراء قبيل وفاتها، أما السبب فقد أكده زملاؤها وهو: غياب نظام آدمي للحالات الأكثر خطورة كالحوامل، وغيرهن من أجل عدم تعريضهن للعدوى، حيث يضطر الشخص للمرور بسلسلة طويلة من الإجراءات كي يحصل على إجازة مرضية من العمل، لا أنسى أيضاً ذلك التصريح الذي أدلت به زميلة الفقيدة، الدكتورة إيمان راضي، حول معاناتها قبل الموت: "إسراء زميلتي بمستشفى الأحرار وكانت حاملاً في شهرها السابع وأصيبت بكورونا بسبب مخالطتها بالمرضى في مستشفى المبرة، ونقلت العدوى إلى أمها وشقيقها، ورفضت موظفة المبرة منح إسراء الإجازة رغم أنها واخدة إجازة مرضى من شغلها، وطلبت منها تبلغ مرضى عن طريق السنترال، وبعدين تتعرضى على اللجنة وهى اللى تحدد تاخدي إجازة ولا مش من حقك، وقالت لها الموظفة انتى عاوزة تقعدي 3 شهور في بيتك تقبضي من غير ما تشتغلي".
قائمة الضحايا تطول، فمن الدكتورة نيرمين جلال، استشاري النساء والتوليد والتي توفيت إثر إصابتها بفيروس كورونا في العام 2020 وهي أم لطفلين 6 و10 سنوات، نجد ظروف العمل القاسية التي تسببت في وفاة طبيب الجراحة المقيم نبيل عادل سيدار، بأزمة قلبية حادة أثناء عمله في مستشفى بنها الجامعي في محافظة القليوبية شمال القاهرة، هي ذاتها التي قتلت قبل أسابيع طبيبة التخدير مي رافع بمعهد الأورام في مدينة دمنهور في محافظة البحيرة، أثناء ممارسة عملها أيضاً، وهي الطريقة ذاتها التي توفي بها الطبيب أحمد سمير عبد العظيم مدرس مساعد الجراحة العامة بكلية طب المنوفية، تماماً بنفس الطريقة التي طال بها الموت طبيبة التخدير مارجريت نبيا حنا، البالغة من العمر 35 عاماً عقب قيامها بتخدير مريض جاء لإجراء عملية جراحية خطيرة، هكذا أرسلته إلى عالم الوعي، ثم انطلقت هي إلى العالم الآخر، والقائمة تطول.
من "بسيشت" إلى شيرين غالباً
ربما الأمر الأكثر استفزازاً في حديث الدكتورة شيرين غالب هو اغفالها المتعمد للفروق الفردية، أنت كغيرك، لن تشكل فارقاً إن غبت، سيؤدي عملك ألف آخرون، بينما في الواقع تبرز أسماء بعينها نظراً لتميز أصحابها، بداية من أقدم طبيبة مصرية على الإطلاق وهي بسيشت تلك السيدة التي لا تزال كتب الطب في مصر القديمة تحمل وصفاتها، كأول طبيبة عرفها التاريخ.
لولا الفروق الفردية، لما استطاعت الطبيبة المصرية رباب رشوان أن تصير واحدة من 30 باحثاً في فريق علمي في أستراليا اكتشفوا الجين المسبب لسرطان الثدي، ولولا الفروق الفردية أيضاً لما صارت الطبيبة المصرية نهال الشقنقيري ضمن أكثر 100 شخصية عالمية تأثيراً في 2022.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.