في عامه الأخير كانت صوره تدهشني، رجل يعاني من سرطان الرئة، ويبدو المرض واضحاً على وجهه وجسده الهزيل، لكنه لا يتوقف أبداً عن السعي، تلك الصورة بالذات استوقفتني كثيراً، من معرض القاهرة للكتاب، فبراير/شباط 2015، وقبل وفاته بستة أشهر فقط كان نور الشريف يحمل حقيبة تحمل اسم "كيان"، وهي دار نشر شبابية تهتم بالأقلام المميزة، حرص الفنان ذو التاريخ الطويل على زيارتهم والشراء منهم، بل والتقاط صورة بصحبة أحدث الكتب في المشهد الأدبي لشباب الكتاب، كتب ربما لم يسعفه القدر لاستكمال قراءتها جميعاً، لكن تلك الصورة ظلت بالنسبة لي "درساً" في الاستمتاع بالحياة والسعي وراء الجديد، حتى اللحظة الأخيرة.
يتيم داخل "عنبر الموت"
لم تكن بدايته في الحياة سعيدة جداً، بمجرد ولادته، في أبريل/نيسان 1946، بدأ العد التنازلي لحياة والده، والذي توفي عقب عام واحد فقط، لتتزوج والدته وتسافر إلى السعودية، مودعة طفليها محمد وعواطف جابر محمد عبد الله بلا أب ولا أم، نشأ الطفلان في كنف الأعمام، لم يدرِ محمد، الذي اختار له جده اسم "نور" على سبيل التدليل، أنه يتيم، ولا أن اسمه الحقيقي محمد إلا في العام الأول من المدرسة، كان الأكيد بالنسبة له هو حبه الشديد لكرة القدم، وتلك الفرقة التي احتلت اهتماماته في طفولته باسم "الأسد المرعب".
للقدر اختيارات لافتة، قليلون هم من ينجحون في "فرق الناشئين" بالنوادي الرياضية، ورغم اختياره كلاعب وسط في فريق ناشئي نادي الزمالك فإن نور الشريف اختار التمثيل، ليلتحق بالمعهد العالي للسينما، ويتخرج بتقدير امتياز، ويصير الأول على دفعته، وهو ما جعل منه "معلماً"، ظل يقدم دروساً ومحاضرات في التمثيل والإلقاء، لم يعلم الكثيرون عنها شيئاً حتى وفاته.
لكن اليتم الحقيقي شعر به نور الشريف حين توفي عمه إسماعيل، الرجل الذي كفله وشقيقته، كان نور على سفر حين وصله الخبر، فعاد ليبقى داخل غرفته يومين كاملين، دون بكاء أو ردة فعل تذكر، يقول في حوار قديم له لمجلة "روزاليوسف" عام 1988: "في نفسي جزء أعتبره عنبر الموت، دخلت إليه ولم أخرج حتى الآن ولا أستطيع نسيانه أو تجاوزه، تمثَّل في ردة فعلي على وفاة عمي، لا يزال يعيش بداخلي".
لماذا أحب هذا الرجل
بعيداً عن الأداء المبهر على الشاشة يعلم صحفيو الفن بالذات، الشخصيات الحقيقية للنجوم، وراء الكاميرا، وبعيداً عن العدسات لا تكون هناك حاجة للتظاهر باللطف أو اللباقة، هنا تظهر الحقيقة، وكم من نجوم يصدمك صلفهم وكبرهم، لكن نور الشريف لم يكن من هؤلاء، أذكر جيداً صديقتي، رئيسة قسم الفن الآن بأحد المواقع الكبرى، حين كنا صحفيين في بداية حياتنا، نعمل بالقطعة، يومها ذهبت لتقابل نور الشريف، وعادت لتحكي لي أساطير عن التواضع واللطف والمعرفة الغزيرة ووجهة النظر التي تستحق الإنصات.
حسناً، لم يكن هذا دافعي الوحيد كي أتطلع لمقابلته، الكثير من الحكايات ظلت تصادفني حوله، ربما أقربها إلى قلبي تلك التي جمعته بالكاتب والمتصوف عبد الرحيم كمال، حين كان لا يزال بعامه الثالث في كلية التجارة الخارجية، يكتب الشعر والقصة القصيرة، يقول إن نور الشريف نظم مسابقة لإعداد بحث حول إخناتون، ومن بين 40 بحثاً اختار نور البحث الخاص بعبد الرحيم، وواصل تشجيعه حين وصفه في حوار مع جريدة الأهرام بأنه اكتشاف، ليتجدد التعاون بينهما لاحقاً عام 2007 بمسلسل الرحايا.
أحببته لأنه كان صادقاً جداً مع نفسه، فلم يكن من طموحاته أن يصير مسؤولاً بأي شكل، خاصة حين قال: "لو عُرض عليَّ منصب وزير الثقافة سوف أرفض، فأنا لا أصلح للمناصب الإدارية على الإطلاق، وأرى أنه من الضروري عدم ترشح فنانين لمناصب تحتاج تفرغاً وتركيزا ً ذهنياً لمتابعة الأمور الإدارية، لهذا نصحت محمود ياسين بعدم قبول منصب مدير المسرح القومي، لكنه أصر، صحيح أحيا المسرح القومي، لكنه خسر من عمره الفني 3 سنوات".
صار من الممثلين المفضلين لديّ، حين شاهدت أداءه في مسلسل الرجل الآخر، ذلك المسلسل الذي أصابه بحالة اكتئاب في الحقيقة لفرط ما تقمص شخصية الرجل الذي فقد ذاكرته، حتى صار الأداء مع الموسيقى التصويرية والقصة أحد علامات الدراما المصرية، كذلك عدد من المسلسلات الفارقة، والتي لا يمل المصريون تكرارها، وعلى رأسها "لن أعيش في جلباب أبي" و "عائلة الحج متولي".
قدمه "عادل إمام" وأعاقه الإدمان في لبنان
في سنة تخرجه اشترك عام 1967 في فيلم "قصر الشوق"، ومسلسل "القاهرة والناس"، حصل وقتها على جائزة وشهادة تقدير، من بعدها لم يتصل أحد به ليعمل مجدداً، لذا اضطر إلى المشاركة في أدوار صغيرة، في أفلام، مثل نادية، بئر الحرمان، زوجة بلا رجل، فنال شهرة لم يتوقعها.
يقول: "توقفت السينما في مصر، وذهبنا جميعاً إلى لبنان، أدعوه بلد الشهوة، جربت حبوب الهلوسة، وارتكبت أكثر من كارثة، حيث لم أستكمل تصوير عدد من الأفلام التي كنت أشترك بها ثم أتركها بلا سبب وأرحل، حين عدت إلى مصر وجدت أنه لا أحد يرغب في توظيفي نهائياً، استغرقني هذا 9 أشهر، قبل أن أقرر التوقف نهائياً، وحدي، دون مساندة طبية، صرت فناناً غير ملتزم، مشهوراً بالإهمال، كدت أفقد مستقبلي إلا أن المنتج والمخرج كمال صلاح الدين أرسل لي فيلم آنسات وسيدات، فكرت كثيراً، وقبلته، الناس حذروه مني، لكنني أثبت فيه أنني الأول بين الجميع، فسَرَت السمعة الطيبة في سوق العمل".
الفيلم الذي تردد نور الشريف في القيام به أعقبه بفيلم آخر هو "ألو أنا القطة"، عام 1975، بصحبة زوجته، وقتها، وكل من عادل إمام ومحمود المليجي الذي أنتج الفيلم، وحظي بنجاح كبير رغم "تفاهته".
فنان صنعه "الظلم"
استردّ نور الشريف نفسه شيئاً فشيئاً، ومن أفلام ومسلسلات مثل "حبيبتي شقية جداً"، و"سونيا والمجنون"، و"انحراف"، بدأت رحلته مع أعمال أكثر جدية مثل "آخر الرجال المحترمين 1984" و "زمن حاتم زهران 1988″، لكن يمكن القول إن حياته يمكن أن تقسم بما قبل فيلم ناجي العلي، وما بعده، ذلك الفيلم التسجيلي لسيرة حياة رسام الكاريكاتير الفلسطيني، إنتاج عام 1992، من إخراج عاطف الطيب وتأليف بشير الديك، وإنتاج شارك فيه نور بنفسه.
فيلم يستعرض لحظة اغتيال الفنان في لندن عام 1087، ومحطات نزوحه من فلسطين إلى لبنان، ثم الكويت، ثم عودته مع الحرب الأهلية اللبنانية انتهاء بوفاته، لكن الفيلم تحول إلى قنبلة انفجرت في وجه الجميع، حيث قوبل بغضب مصري وعربي لم يبدُ مفهموماً وقتها، فمن جهتها قررت العديد من الدول العربية منع عرض الفيلم داخلها، ومن ناحيته هاجمه الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، ومن ناحيتهم قام الصحفيون المصريون، وكذلك الفنانون بـ "نهش" نور الشريف، باعتباره قد أساء إلى القادة العرب، حتى تم اتهامه بالحصول على تمويل أجنبي لتنفيذ الفيلم.
كلما ظهر نور من بعدها في لقاء كان يبكي بحرقة، حتى قبيل وفاته بوقت قصير، كان الأمر لا يزال فارقاً بالنسبة له، ذلك التخلي القاسي والعنيف وغير المبرر، جعله شخصاً آخر تماماً، حتى في اختياره للأعمال، أكثر انسانية وعمقاً واختلافاً، هكذا قدم من بعد هذا العام عدداً ضخماً من الأعمال المميزة جداً، وغير المسبوقة في تاريخه، أذكر منها الزمن والكلاب، الكلام في الممنوع، عيش الغراب، اختفاء جعفر المصري، وأخيراً باقة من الأعمال المؤثرة جداً مثل دم الغزال، وعمارة يعقوبيان، وبتوقيت القاهرة 2014، قبل وفاته بعامين فقط.
شعور نور الشريف لم يتسبب في تغير كامل في اختياراته ورؤيته للحياة، ولكنه أيضاً كان سبباً في مساندته للمظلومين أيضاً، وهو ما شهدت به لاحقاً الإعلامية المصرية هالة سرحان، حين أكدت أن نور الشريف كان ضد الظلم، وحين تعرضت للظلم لم يقف إلى جوارها سواه.
سار فوق قبور المسلمين.. ولهذا أوقفه الأزهر مرتين
يظن البعض أن حادث المنع الوحيد المتعلق بنور الشريف، هو ذلك المتعلق بفيلمه "ناجي العلي" ، في حوار أجري معه عام 2008، يحكي ما جرى معه بشأن فيلم يدعى "الظاهر بيبرس" يقول: "تم منع تصوير الفيلم بعد الانتهاء من نصفه، كانت أحداثه تدور حول شخصية وتاريخ الظاهر بيبرس، وقتها اعترض الأزهر على مشهد يصور بيبرس راكباً حصانه ويسير على قبور المسلمين"، الفيلم الذي كان إنتاجاً مصرياً روسياً مشتركاً توقف تصويره في أعقاب تفكك وانهيار الاتحاد السوفيييتي، لم يكتمل أيضاً لأسباب إنتاجية، لكن بقي اعتراض الأزهر مثار استغراب الفنان الذي اعتبر اعتراض الأزهر بلا معنى، يقول: "دهشت لأن كل الأراضي تحوي رفات أموات من قديم الزمان، فنحن أحياء تمشي على أموات منذ بدء الخليقة".
الاعتراض الثاني للأزهر على نور الشريف كان بشأن تجسيد شخصية "الحسين" في مسرحية، ما أصابه بإحباط شديد، حتى إنه صرح عام 2010 بأنه مستعد للاعتزال إذا ما نجح في تقديم تلك الشخصية.
عامة لم تكن تلك التفاصيل وحدها المثيرة للجدل بشأنه، فنور الشريف كان من أشد المعجبين بحسن نصرالله، وكان من أمنياته تجسيد شخصيته في عمل فني، وقال: "أتمنى تجسيد شخصيته في عمل درامي مصري، لأنه نموذج من المثل العليا التي انقرضت، إذ يقدم روحه فداء لقضيته، واستشهد ابنه في قتال إسرائيل. والأهم من ذلك أنه ليس من نوعية الرجال الذين يتاجرون بقضايا أوطانهم، نموذج للزعيم الذي يعتمد التفكير العلمي في الدين، ومنذ 1982 وهو يخطط بطريقه علمية، ويعمل في السر ونجح في إعداد كوادر من العلماء وأنشأ مشاريع ولم يتوقف مثلما حدث مع تنظيمات أخرى انهارت عندما توقف التمويل. وأتمنى من الله أن يحفظه ويحميه".
اتهامه بالشذوذ
في العام 2010 خرجت جريدة البلاغ الجديد، بخبر عن القبض على كل من نور الشريف وخالد أبو النجا وحمدي الوزير، في شبكة شذوذ جنسي، من داخل فندق سميراميس، وقتها ثار الفنان بشدة، وتقدم وزملاؤه ببلاغات إلى النائب العام، حتى اقتص له القضاء المصري أخيراً، حيث تمت إدانة رئيس تحرير صحفية البلاغ الجديد الأسبوعية والصحفي محرر الخبر، وصدر حكم بحبسهما لمدة عام لإدانتهما بالتشهير بالممثلين.
نور وبوسي
تبدو قصة حب بوسي ونور الشريف مثالية جداً من الخارج، فتاة أحبت رجلها وهي بعمر الـ15، ترفض عائلتها زواجها منه عقب سنوات، لكن تستمر قصة الحب، وتحاول بوسي الانتحار حين حاولت أسرتها تزويجها شخصاً ثرياً، لترتبط بحبيبها في النهاية، لكن نظرة قريبة توضح لي كل شيء.
حسناً، لنبدأ من البداية، من بعد الارتباط قام نور بتغيير اسمه في الأوراق الرسمية لـ"نور الشريف"، حين حملت بوسي ابنتها الأولى منه "قلت المولود هيتسجل باسم محمد جابر، ومحدش يعرف مين محمد جابر ده، لذلك غيرنا كل الأوراق الرسمية، شهاده ميلاده وبطاقته وأصبح اسمه نور الشريف جابر بدل محمد جابر"، هكذا تغير الكثير بشأن نور الشريف، ليس اسمه فقط.
أما الزوجة التي وقعت قسيمة الزواج عام 1972 فقد انفصلت عنه عقب وقت قصير، تزامناً مع سفره إلى لبنان، وإدمانه للمخدرات هناك، لتبقى من بعده عامين بلا زواج، ظل نور خلالهما يحاول العودة واستعادة حياته مع تلك الشابة التي يحبها كثيراً، هكذا عادت له من جديد ليستمرا معاً حتى العام 2006 في زيجة أثمرت ابنتين، لكن الطلاق الثاني والمباغت ارتبط بعدد من الشائعات والأسماء، مثل الفنانة التونسية ساندي، ونور السمري، لكنّ أياً من هذه أو تلك لم يتم تأكيد الحكايات بشأنهما، ليقع الطلاق بالفعل ويستمر لاكثر من ثماني سنوات، قبل أن تعود بوسي إلى طليقها الذي اعتادت وصفه بـ"السند" عقب علمها بتدهور حالته الصحية، لتقضي معه عامه الأخير.
الموت بسرطان الرئة وبيع المقتنيات
لم تخبره أسرته أنه مصاب بسرطان الرئة، منذ وقعت الإصابة وحتى الوفاة، عاش نور في كذبة أنه مصاب بالتهاب رئوي متكرر، هكذا ظل حتى اللحظة الأخيرة يعتقد أن كل شيء سيكون بخير.
العائلة المؤلفة من الأم بوسي والابنتين سارة ومي، صدرت عنهما عدة تصرفات أثارت استغرابي، بدأت عقب وفاة نور الشريف، حين قاموا جميعاً ببيع مقتنياته بثمن بخس، يشهد على ذلك جامع أنتيكات قال: "أكثر من 200 عمل درامي بين سينما وتلفزيون ومسرح وإذاعة، كذلك أسطوانات موسيقى لأغنياته المفضلة تم بيعها". وأضاف تاجر الأنتيكات لجريدة الوطن: "تم البيع بسبب عدم تقدير قيمتها من طرف الورثة، بالنسبة لهم متعلقات قديمة، وكتير غيرهم من أبناء المشاهير انتشرت متعلقاتهم بنفس الطريقة بعد وفاتهم".
حالة "التخلي" لم تشمل الأشياء المفضلة للراحل فقط، ولكنها شملت "مكتبته" التي تم التبرع بها بالكامل إلى مكتبة الإسكندرية عقب وفاته بعدة أشهر ، كذلك غياب الأسرة بالكامل عن تكريمه عقب الوفاة في ذكراه الأولى، لكن بقي الأمر الأغرب في هذا كله هو تصريح الأسرة حول "مذكرات نور الشريف" تلك التي كتبها بخط يده داخل مكتبه "الفوضوي" حسب وصفهم، حيث أكدت مي أن والدها كان حريصاً على كتابة يومياته بخط يديه، قبل أن تعود الأسرة لتنكر هذا كله ويؤكدوا "لا توجد مذكرات بخط يده".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.