القرون الوسطى، تلك الأيام المجيدة التي كانت بدون نشرة أخبار، هذه النشرة التي صارت لا تنقل إلا المآسي والهزائم لأمتنا، ولهذا كلما جاء ميعاد النشرة أصبحت أنظر إلى مذيعها برعب، تماماً كما كان جدي ينظر إلى ساعي التلغراف، فدخول هذا الساعي إلى الشارع الذي تقطنه كان معناه أن قريباً لأحد سكان الشارع قد مات، وما عليك إلا أن تدعو لكي لا يقف أمام منزلك، أما إن عاكسك الحظ ووقف الساعي أمام بيتك، فكنت تجد أن كل من في البيت في حالة ترقب، وكل واحد فيهم يتوقع بينه وبين نفسه اسم المتوفى، بعد أن يستعرض في ذهنه قائمة كبار السن والمرضى في عائلته، مضيفاً إليهم احتمالية الموت الفجأة الذي قد يداهم أي فرد في أي وقت.
جاءت في ذهني هذه الخواطر عندما قرأت في كتاب بعنوان "كيف تكتب رواية" لماركيز، أن الرسول الذي كان يأتي بأخبار سيئة في أوروبا خلال القرون الوسطى كان يتعرض للشنق، ففكرت بأنه لو كان هذا التقليد مستمراً إلى وقتنا هذا لما بقي مذيع أخبار عربي على الإطلاق، ولكن ماذا كنا سنفعل وقتها أمام هذه المشكلة، أظن أن التصرف السديد في هذا الوضع الدقيق لن يخرج عن خيارين:
الأول: أن نكف عن إذاعة نشرات الأخبار تماماً
وهذا الخيار سيؤدي بالطبع إلى انعزال الشعب عن التطورات التي تحدث في العالم بصورة دائمة ومستمرة، وهنا سيثير البعض سؤالاً فلسفياً عن الجدوى من معرفة الشعوب بأمور قد لا تغير الكثير من أوضاع معيشتهم اليومية التي لا يهتمون في الغالب إلا بها، فماذا سيفرق مع شعب من الشعوب أن زلزلاً قام في قارة أخرى، وماذا سيغير في حياة شعب أن يعرف أن الملك أو الرئيس الفلاني قد مات أو قتل، كما أن واقع الحال يقول إن الكثير والكثير جداً من الناس لا يتابعون نشرات الأخبار، اللهم إلا تلك الفقرات التي تتعلق بكرة القدم.
لكنك ستجد من يرد ويقول إن المعرفة حق من حقوق الإنسان، لا يحق لأحدهم حجبها عنه تحت أي حجة أو مبرر، وما تراه أنت أنه غير مفيد لك، قد يراه آخر كرافد أساسي من روافد الفكر والمعرفة، وما المعرفة الإنسانية إلا ركام من المعلومات والأخبار الصغيرة التي تشكلت منها بعد ذلك العلوم والفنون.
وسيرى آخرون أن رأي عدم إذاعة الأخبار سيتفق جداً مع أهواء رؤوس الأنظمة الاستبدادية، الذين يريدون عزل الشعوب التي ترزح تحت نير ظلمهم عن أي أخبار تحدث في العالم، وخصوصاً أخبار الثورات التي نجحت في إزالة نظرائهم من طواغيت العالم، ما يضطرهم بعد ذلك لتمويل القيام بثورات مضادة في البلاد التي نجحت فيها هذه الثورات، لكي يروا شعوبهم مآلات الثورة على أولياء الأمر الذين قد يظلموننا، ولكنهم يتركوننا أحياء، ولا يقصفوننا بالكيماوي أو يضربون أفراحنا ومآتمنا بالصواريخ عن طريق الخطأ.
هذا الخيار قد يضر أيضاً بصناعة الأدوية وعيادات الأطباء؛ لأن أمراض الضغط والسكر المستشرية في المجتمع جراء إذاعة الأخبار الكئيبة التي تسود عالمنا الإسلامي والعربي ستشهد انخفاضاً رهيباً، لذلك فإن الدولة وحفاظاً على أرصدة أصحاب مصانع الأدوية، وعدم حدوث اختلال بسوق العمل، الذي سيشهد حجم بطالة رهيب لتسريح أعداد كبيرة من مصانع الأدوية، ستضطر إلى الأخذ بالخيار الثاني، وهو أن تحكم المحاكم بإذاعة الأخبار كعقوبة.
الخيار الثاني: الحكم بإذاعة الأخبار كعقوبة
وفي هذه الحالة ستضطر الدولة لعمل دورات تدريبية للمحكوم عليهم بالإعدام داخل السجون، لتأهليهم ليصبحوا مذيعي أخبار سياسية، والذي سيساعدنا جداً أن معظم ساكني السجون في أيامنا هذه وبخاصة في أوطاننا العربية من ذوي القضايا السياسية، وهؤلاء يمتلكون في الغالب حصيلة ثقافية لا بأس بها، ما سيسهل من عملهم الإعلامي المهم.
وبهذا لا نكون قد أخللنا بمبدأ إعدام الرسول الذي يحمل الأخبار السيئة، والذي نحمد الله أنه لا يطبق إلى الآن!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.