قصة الضابط الفرنسي الذي أنقذ جزائرياً من الإعدام رمياً من طائرة وانضم للثورة الجزائرية

عدد القراءات
904
عربي بوست
تم النشر: 2022/08/22 الساعة 10:48 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/11/01 الساعة 10:52 بتوقيت غرينتش
الضابط الفرنسي نُوّال فافروليير / عربي بوست

إلى وقت قريب، كنت أعتقد أن المشهد الانساني المؤثر في الفيلم الجزائري "الأفيون والعصا" الذي اقتبسه المخرج الشهير أحمد راشدي، من رواية للكاتب الكبير مولود معمري، محض خيال. قبل أن أعثر على قصة حقيقية لجندي فرنسي قرر في لحظة ضمير، أن يخرج من جلد الجناة الفرنسيين ليلبس ثوب الضحايا الجزائريين، فيلتحق بالمقاومين محارباً أبناء جلدته المحتلين.

يقدم الفيلم السينمائي الذي عرض في مهرجان كان 1970، قبل طرحه للشاشات العام 1971، عقدة إنسانية كبيرة، عندما قرر جندي فرنسي اسمه "شودييه"، شخّصه الممثل الفرنسي الكبير جون لويس ترانتينيان، أن يفك قيد جندي جزائري، اسمه علي، جسده الممثل الجزائري القدير سيد علي كويرات، ليفر معه إلى معاقل الثوار، إنقاذاً له من إعدام وحشي قبل ساعات من إلقائه مكبلاً مثل نعجة، من طائرة عمودية في غابة كي يصير وليمة ذئاب وغربان.

وفي واقع الحقيقة لم يكن الممثل الفرنسي سوى مؤدٍّ لدور بطولي لرجل حقيقي هو نوال فافروليير، ضابط الصف الفرنسي من فوج المغاوير الثامن، الذي قرر أن يخلص كيانه من ورطته الأخلاقية والإنسانية، وهو ينقذ أسيراً جزائرياً حقيقياً، اسمه محمد الصالح نصير، منتصراً لقضية وطن عدو ضد الوطن الأم، ولو كلفه ذلك الانقلاب المثير، تهمة الخيانة العظمى وعقوبة الإعدام.  

1/ وصية الأب لولده: كن ملاك حياة لا شيطان حروب

قصة الضابط الفرنسي
نُوّال فافروليير

لم يكن ذلك الشاب العشريني المتحمس للحرب في الجزائر، واسمه نُوّال فافروليير، يتوقع قط، أن يقول له والده الذي رافقه إلى محطة القطار بمنطقة لاروشيل في رحلته للالتحاق بفوج الصاعقة ببومارسون وهو يقبله قبل أن يودعه:

-أنت ذاهب إلى الحرب فلا تكن شريراً.

لبث في بهوت متأملاً تلك العبارة غير المنتظرة، قبل أن يعود والده جرياً نحوه واضعاً قدمه على درج العربة الواطئ، مقبلاً إياه مرة ثانية هامساً:

-سامحني يا بني ما كان عليّ أن أقول ذلك، أعرف أنك طيب ولست شريراً.

في الثكنة طفق الشاب يتذكر أن والده كان مقاوماً للاحتلال النازي، وأن عائلته عرفت قساوة الغزو الألماني، حيث سُجن أبوه ونكل بعمه، حتى إنه رغب وهو فتى مراهق في الانخراط في المقاومة الفرنسية بقيادة الكومندان صولاي، لا بل إنه عرض نفسه ناقلاً للأخبار والرسائل ومتجسساً على تحركات الألمان، ولذلك تراه اليوم، في بزة الجندي الذاهب إلى حرب الجزائر، من أجل رفعة الوطن ومجد الأمة الفرنسية، أو هكذا خيّل إليه.

في العام 1956، كان هذا الأشقر البالغ 22 ربيعاً يحوز رتبة رقيب، ضمن مجموعة عسكرية فرنسية عملياتية تسمى الفوج الثامن للمظليين "8 أر بي سي"، مكلفة بمطاردة كتائب جيش التحرير ونصب الكمائن، بمنطقة تبسة، وشمال واد سوف، وداوم على ذلك لأشهر طويلة قبل أن تقع حادثة ستغير مسار حياته رأساً على عقب، عندما عاين مشهداً دراماتيكياً نكأ فيه وصية والده مثل الجرح الغائر.

فخلال عملية تمشيط بمشاتي جنوب الأوراس تبدّى لهم طيف شبح متحرك بين أشجار غابية فصاح النقيب نحو جندي فرنسي:

-إذا قنصت ذلك "الفلاّق" الجزائري، أي المتمرد الجزائري، فلك وجبة طعامي ومبلغ إضافي من الفرنكات.

جندل القناص هدفه بدقة فأرداه قتيلاً، قبل أن يلحق به فأطلق صرخة مدوية حينما رأى أنه قتل طفلاً كان يلفظ أنفاسه راعشاً بين يديه، ثم إن القاتل جن، أما نوال فقد جفاه النوم لعدة ليال وأيام.

تذكر الرقيب الفرنسي حادثة وقعت له خلال حرب المقاومة ضد الألمان، إذ كان متحمساً للانتقام من الغزاة، بيد أنه ذرف الدموع ذات مرة عندما رأى جثة شيخ ألماني قتله الفرنسيون.

أمّا الانقلاب الكبير فلن يتأخر في الوقوع عندما كان مرابطاً مع فيلق قرب تبسة، لقد تم أسر جنديين جزائريين، كان أحدهما مقيد اليدين بسلك معدني سارع إلى قطعه ليستبدله بقطعة قماش، رغم أن نقيباً كان زجره بشدة معيداً تكبيل الأسير بقطعة معدنية.

في فجر اليوم التالي كانت فرقة خاصة تصحب معها أحد الأسيرين في طائرة هليكوبتر متجهة نحو تبسة، ولم تبطئ وإن رجعت تلك الحوامة دون الجندي الجزائري، فـساورته شكوك مؤرقة، لاستحالة أن تقطع الطوّافة تلك المسافة الطويلة في وقت وجيز، ثم سقطت عليه الصاعقة وجندي سنغالي يخبره سراً: 

-لقد تم رميه من الطائرة العمودية.

2/ ليلة تحرير الأسير والفرار إلى معسكر الأعداء

شعر نوّال بألم عميق يسحق كيانه، وبعذاب عنيف يهز ضميره، بخاصة لما علم أن الأسير الثاني، واسمه الكامل محمد الصالح نصير، سيكون ضحية ما يسمى "عقوبة الغابة"، أي الاعدام رمياً من علو شاهق أسوة بسابقه. ليلاً كان المتمرد ينفذ ما قرره ضميره، ففك القيود عن محمد الصالح المصاب برصاصة في كعب أخيل، عاقداً العزم على الهروب معه، والانضمام إلى كتائب جيش التحرير.

ظل الأسير الجزائري يرتعش طوال الطريق لاعتقاده أن العريف الفرنسي سيقوم بإعدامه، فما كان على هذا الأخير وقد أدرك توجس مرافقه إلاّ أن يبدي له نيته الحسنة، بأن سلمه سلاحه المعمّر، فتبددت مخاوفه فانطلقا يجوسان الصحاري والفلوات فراراً من الجنود الفرنسيين الذين شنوا حملة تمشيط بحثاً عنهما، فاختبآ في مغارة في كهف ساعة ما نزلت فرق من العساكر الفرنسيين، فكاد يبلع لسانه عندما اقترب منهما جندي فرنسي فحدجهما كامنين في عمقها، قبل أن ينزل سلاحه منصرفاً و هو يشير لرفاقه بخلو المكان، آنذاك أسرّ الرقيب للجزائري "لقد أنقذتك وأنا أعرف من تكون، وها هو جندي مجهول ينقذنا معاً دون أن نعرف من يكون".

قصة الضابط الفرنسي
الأسير الجزائري

واصلا طريقهما جائبين المغارات والقفار على مدار خمسة أيام، من الجوع والعطش الشديدين، كانا لا يأكلان غير نزر قليل من أطعمة المصبرات، والبسكويت، والجبن المجمّد، ثم إنهما صادفا جثة الأسير الأول مرمية في الفلاة، مهشمة الرأس وقد التهم وجهها الذئاب.

3/ مجزرة في قلب الخيمة وسر اسم الطفل الشهيد 

وفي لحظة ما كانا يلمحان خيمة على بعد عشرات الأمتار، ولم يلبثا أن جريا نحوها وهما يسمعان أزيز طائرة تقترب من الأجواء، فارتميا داخلها لبرهة قبل أن يقوما بين أحضان عجوز كانت تضمه إليه بشدة، بعدما شاعت قصتهما منذ أيام نقلاً عن بدو يقيمون في الجوار.

 أوتهما العائلة لأيام وقدمت لهما الطعام، ثم كان نوال ينزع مشبكاً برونزياً لشعار الفوج من طاقيته العسكرية ويقدمه هدية للعجوز التي علقته ناحية نحرها تماماً كخلالة تقليدية، فيما ذهب ابنهما نور الدين على ظهر حمار ليجلب لهما الماء.

ثم حدثت المأساة، عندما غادرا الخيمة وعاد نور الدين بالماء، إذ سرعان ما بدأ ينشج ويتضور ألماً بعد أن أبادت فرقة من "الحركة" عائلته بالكامل بسبب تلك الشارة المعلقة في نحر العجوز.

ظل الفاران يقطعان الطريق لليال متتالية دونما توقف حتى بلغا بيتاً في قرية وناما فيه إلى الصباح، كان ذلك البيت هو بيت والدة الأسير محمد الصالح نسير، فتم الاختباء به لأيام قبل أن يحول إلى الحدود الجزائرية التونسية، ليعبراها نحو مدينة الرديف التونسية داخل سيارة شرطة تونسية كي لا يتعرضا للتوقيف، حيث تمنع القوانين السارية تفتيش المركبات الرسمية التابعة للدولة التونسية المستقلة.

تكفل الكولونيل علي بن بشير المكنى أبو غزالة بصفته قائد جيش التحرير الوطني بالجهة بإدماجه في كتيبة طالب العربي بوادي السوف، ثم طلب منه أن يختار اسمه الحركي في صفوف جيش التحرير فأجاب باكياً بلا تردد " نور الدين"، تيمناً بذلك الطفل الصغير الذي فقد عائلته في رحلة جلب الماء له، ثم حينما استشهد في انفجار قذيفة فرنسية أصابت وجهه البسوم.

4/ مثل الجزائر في الأمم المتحدة وأخضعته "السي. آي. إي" لجهاز كشف الكذب  

قصة الضابط الفرنسي
نُوّال فافروليير

نشط نور الدين 10 أشهر في معاقل المجاهدين قبل أن يقرر العقيد عميروش انتدابه في ممثلية الجبهة لتونس، بعد إصابته بجروح حتمت نقله للعلاج هناك، بيد أن القدر نقله إلى نيويورك، لقد أعجب به صحفي فرنسي من فرانس برس حاوره في تونس عندما سأله: " ألا يعتبر ما فعلت خيانة لفرنسا؟" فأجابه: "لم أخن بلدي، بل انتصرت لقضية عادلة لبشر يحاربون لتحرير بلدهم كما فعلت عائلتي ضد الاحتلال الألماني".

وبوساطة من ذلك الصحفي الشهم الذي كانت تربطه بالسفير الأمريكي علاقات شخصية وطيدة، انتقل نور الدين إلى نيويورك حيث قامت قيادة الثورة بتعيينه في الوفد الجزائري الممثل لها بالأمم المتحدة، رفقة محمد اليزيد، ثم توجه للتأليف مصدراً كتابه ذائع الصيت "الصحراء عند الفجر" الذي مُنع من التوزيع في فرنسا، جراء ما احتواه من حقائق حول التعذيب والمجازر الفرنسية في حق الأطفال والنساء والعزل، وجلب له ضغوطاً أمريكية انتهت بوكالة الاستخبارات الأمريكية إلى استنطاقه وإجلاسه على كرسي الاعتراف للتأكد من أقواله عبر جهاز كشف الكذب، بسبب التشكك في ميوله الشيوعية وعلاقاته بالسوفييت، قبل أن تتدخل الشرطة الفيدرالية بتوفير الحماية له من جلسات التحقيق والاستنطاق.

5/ عاش بهوية مزورة لسنوات والتقى رفيقه محمد بعد 55 سنة من الفراق. 

قصة الضابط الفرنسي
 الضابط الفرنسي مع رفيقه بعد 55 سنة من الفراق

بعد استقلال الجزائر ظل الرجل محكوماً عليه بالإعدام الغيابي من طرف المحكمة العسكرية الفرنسية، فمارس مهنة الرسم، التي أتاحت له وهو الذي يحمل بطاقة عائلية جزائرية، الدخول بهوية مزورة إلى فرنسا العام 1964، فشارك في معرض للفنون، بدعوة من مؤسسة موريس أودان وبرعاية الفيلسوفين الفرنسيين جان بول سارتر وسيمون دوبوفوار، ومكنه المكوث المتخفي قبل العودة للجزائر، من التعريف بقصته، فكتب عنه الكاتب الشهير بيار ناكي فيدال مقالاً دعا فيه السلطات الفرنسية للعفو عنه.

ثم وبعد استفادة عدد كبير من المتمردين الفرنسيين المنتمين للمنظمة الفرنسية الخاصة المتهمة بارتكاب جرائم حرب ضد الجزائريين، قررت والدته أن تكتب رسالة شخصية لزوجة الرئيس الفرنسي إيفون ديغول جاء فيها "إن ابني وبدل أن يكون مجرم حرب، رفض تنفيذ أوامر قادة هم في نهاية المطاف أبناء فرنسا الضالون، كما يقول الجنرال ديغول، أرجوك سيدتي أعيدي ابناً لوطنه والسلام إلى قلب أمه"، ولم يمضِ يومان حتى كانت زوجة الرئيس الفرنسي ترد برسالة أكدت فيها "إن رئيس الجمهورية قرأ رسالتك وسيتكفل بالتماسك في القريب العاجل"، وهو ما لم يتأخر قط حيث تمت تبرئته بتاريخ 21 فبراير/شباط 1966، من طرف المحكمة العسكرية بروي بعد محاكمة ظهر فيها أن القاضي العسكري كان أشد احتراماً لموقفه كرجل جسّد قيم ثقافة الأنوار الفرنسية، والشرف العسكري.

توفي نوّال في 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، تاركاً وراءه سمعة ستعيش حتماً أطول من عمره، فألفت عن ملحمته كتب بينها "الجندي الهارب"، وأنجزت حوله وثائقيات ومقالات وصفته دوماً بالعاصي البطل والعادل، والطيب، وطوال سنوات عديدة كان يسعى للقاء رفقاء السلاح الفرنسيين، غير أنهم تفادوا رؤيته، وقد كان متفهماً لامتناعهم؛ إذ يقول "إنهم يشعرون بالعار من رؤيتي، إذ سيظل موقفي ذاك يذكرهم بأنهم لم يكونوا بشراً مثلي بل وحوشاً يحملون بنادق".

وقبل وفاته بسبع سنوات كان محمد الصالح نصير يستقبل منقذه نوال في وادي سوف في ذكرى استقلال البلاد العام 2011، فلم يتمالك دموعه من فرحة لقاء مدوٍّ بعد خمسة وخمسين عاماً من الفراق، أما نور الدين الفرنسي فقال: "لقد كنت كما كان والدي يريدني أن أكون. لقد كرر لنا القدر نفس التجربة والمصير، لذا قررت أن أنقذ محمد الصالح من الموت، لأن جندي صف ألمانياً أنقذ والدي من الموت وساعده على الفرار من المعتقل خلال حرب المقاومة ضد النازية. لقد تصرفت مع أسيري مثلما تصرف ذلك الجندي الألماني الشهم مع أبي".

أبوه الذي وشحه بوصية في محطة القطار لاروشيل قبل ساعات من التحاقه بالجبهة، وصية اتضح أنها أكثر بريقاً من النياشين والرتب العسكرية:

– لا تكن شريراً. كن ملاك حياة لا شيطان حروب.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

طاهر حليسي
كاتب صحفي جزائري
طاهر حليسي، كاتب صحفي، يعمل حالياً مديراً لمكتب "الشروق" الجزائرية في مدينة باتنة،التحق بالصحيفة عام 2000، بعد تجربة إعلامية كمحرر مزدوج اللغة (عربي فرنسي) بجريدة الجمهور الأوراسي، ثم صحفي كاتب مقالات رأي وتحاليل ومترجم بأسبوعية "الأطلس". عمل رئيس تحرير بعدة صحف أسبوعية منها "الراية" و"الوئام".
تحميل المزيد