بعد قضاء الرئيس حسني مبارك فترتين رئاسيتين، وقراره بالترشح لفترة ثالثة، قررت كصحفي شاب التوجه إلى كل من قريته وقرية الرئيس السادات، لمعرفة ماذا فعل كل منهما تجاه قريته، وبدأت بكفر المصيلحة مسقط رأس مبارك، فوجدت غضباً منه من قبل الأهالي؛ نظراً لانقطاعه بالمرة عنهم، وعدم استجابته لمطلب لابن عبد العزيز باشا فهمي الذي كان واسطة دخوله للكلية الجوية.
وفي ميت أبو الكوم مسقط رأس السادات، كانت هناك منطقة مبانٍ سكنية حديثة، ومنطقة من البيوت الطينية، حيث إنه كان قرر تخصيص نصيبه من جائزة نوبل لبناء مساكن لأهالي القرية، لكنه مات قبل إتمام المهمة التي لم يكملها من جاء بعده.
وفي الجزء القديم من القرية وبجوار كوخ من الطين مسقوف بالقش، جلس رجل مسنّ حافياً يستدفئ تحت الشمس من برودة الجو، وتقدمت منه مُعرفاً بنفسي وبالجريدة التى جئت منها، سائلاً عن مشاكل أهل القرية، فرد الرجل "مفيش مشاكل ولا حاجة، كله تمام". لكن مظهر الرجل البائس ومشوار الطريق المرهق للوصول للقرية دفعاني للإلحاح في السؤال نفسه، فرد الرجل قائلاً: "يا بيه ولو قُلنا ها تكتبوا، ولو كتبتم ها يعملوا حاجه؟!".
وصدمني الكلام البليغ المعبر للرجل عن عدم ثقته في الصحف التي لا تكتب عن مشاكل المواطنين من أمثاله، وحتى إذا كتبت فلن تجد تلك الكتابة صدى لدى المسؤولين، ولم أستطع إكمال الحوار معه بعد ذلك فقد قال الخُلاصة، وطلبت من المصور المرافق لي وسائق سيارة الجريدة العودة إلى القاهرة.
رؤساء الوزارات ووعود تحسين الأحوال
وظللت طوال طريق العودة أفكر في كلام الرجل المسنّ، الذى مر عليه العديد من المسؤولين وتصريحاتهم بتحسين أحوال المواطنين، والتى كان يصدقها في البداية ثم تضاءلت ثقته بها بعد ذلك، ففي فترة الرئيس جمال عبد الناصر سمع تصريحات من 6 من رؤساء الوزارات، بداية من عبد الناصر نفسه إلى نور الدين طراف وكمال الدين حسين وعلي صبري وزكريا محيي الدين وصدقي سليمان ثم عبد الناصر مرة أخرى.
وفي فترة السادات سمع الكثير من الوعود من 6 من رؤساء الوزارات، بداية من محمود فوزي وعزيز صدقي والسادات نفسه، وعبد العزيز حجازي وممدوح سالم ومصطفى خليل ثم السادات مرة أخرى، وفي فترة مبارك سمع وعوداً من رؤساء وزارات بداية من مبارك نفسه إلى فؤاد محيي الدين وكمال حسن علي وعلي لطفي وعاطف صدقي رئيس الوزراء بتلك الفترة.
ومن الطبيعي أن هذا المواطن وأقرانه قد سمعوا وعوداً ممن جاؤوا بعد ذلك من رؤساء للوزارات من كمال الجنزوري وعاطف عبيد وأحمد نظيف.
أذكر تلك القصة بمناسبة الإعلان عن التعديل الثانى لوزارة مصطفى مدبولي بمصر، وعدم اكتراث المواطن العادي بذلك التعديل، ويقيني بعدما أدركت حكمة البسطاء عملياً من فلاح ميت أبو الكوم، أن الكثير من المواطنين يدركون أنه ليس لدينا وزراء أصحاب قرار، وإنما سكرتارية تنفيذية للحاكم أياً كان اسمه، سواء عبد الناصر أو السادات أو مبارك أو الجنرال الحالي.
وحتى إذا كان جيل الكبار قد رحلت غالبيته، فإن أجيال الوسط الحالية قد مرت بتجارب شبيهة أدت إلى النتيجة نفسها، فما بين ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011 وحتى عودة الجيش لتولي السلطة في الثالث من يوليو/تموز 2014، قد تعاقب على مصر 4 رؤساء وزارات، بداية من أحمد شفيق وعصام شرف وكمال الجنزوري وهشام قنديل، ومن الطبيعي أن قصر فترة كل منهم لم يتح له ترك بصمة شعبية، خاصة في أجواء عدم الاستقرار حينذاك.
من طوابير الانتخابات إلى الانتخاب الإجباري
وبعد تولي الجيش السلطة منتصف عام 2013 تعاقب على مصر 4 رؤساء وزارات، بداية من حازم الببلاوي وإبراهيم محلب وشريف إسماعيل ومصطفى مدبولي، مع حدوث تغييرات وزارية لدى معظمهم تمثلت في تغيير واحد بفترة محلب، و3 تغييرات وزارية بفترة شريف إسماعيل، وتغييرين وزاريين حتى الآن بفترة مدبولي؛ ما نجم عنه قصر فترة بقاء الوزير في وزارته.
فمنذ منتصف 2013 وحتى الآن تعاقب على وزارة الزراعة 7 وزراء، وعلى كل من وزارات الري والصناعة والتجارة 5 وزراء بكل منها، رغم قصر مدة رؤساء الوزارات التي بلغت 7 أشهر ونصف للببلاوي، وعاماً ونصفاً لمحلب و32 شهراً لإسماعيل، وكان مدبولي الأكثر عمراً؛ حيث قضى 4 سنوات حتى الآن.
وخلال الفترة فيما بعد الاتفاق مع صندوق النقد الدولي أواخر عام 2016، سمع المواطن الكثير من الوعود بتحسن الأحوال خلال عملية الإصلاح الاقتصادي التى قاموا بها، لكن الأمور زادت تعقيداً، وكلما سمع المواطن عن موعد موقوت لتحسن الأحوال مثلما قيل عن نهاية يونيو/حزيران 2020، تزيد الأمور تعقيداً، ما جعل المواطن راضياً بالسيئ خشية قدوم الأسوأ منه، سواء على الجانب الاقتصادى أو السياسي والاجتماعي.
فبعد أن شهد المواطن طوابير انتخابات أول برلمان بعد ثورة يناير/كانون الثاني، وطوابير انتخاب أول رئيس مدني لمصر، إذا به يجد من ينزلونه من الميكروباصات والأتوبيسات ويدفعون به دفعاً لدخول اللجان الانتخابية، ويسمع عن نتائج انتخابات تفوق نسبة 90% من الموافقة.
وبعد أن كانت وسائل الإعلام بمثابة منابر لإيصال آراء المواطنين، تحولت إلى إعلام الصوت الواحد المعبر عن رأي السلطة، التي لم تكتف بالإعلام من فضائيات وصحف ومجلات، ولكن سطوتها امتدت إلى الإنتاج الدرامي ليخدم أجندتها.
الانشغال بنفقات المعيشة الاهتمام الرئيسي
وأصبح إبداء الرأي على مواقع التواصل الاجتماعى محفوفاً بالمخاطر بعد القبض على العديد ممن عبروا عن آرائهم بها، وتم توحيد موضوع خطبة الجمعة على مستوى البلاد، وغاب دور الأحزاب السياسية والنقابات والاتحادات، وأصبح دخول الملاعب لمشاهدة مباراة للكرة مرهوناً بالحجز المسبق، وتحديد مكان الجلوس بالمدرجات الممتلئة برجال الأمن والجيش، والنتيجة نجاح السلطة في تهميش الشعب.
وهكذا أصبح البقاء بالمناصب الوزارية مرتبطاً بالولاء وليس بالكفاءة، وها هو وزير الأوقاف الحالي الذي أصبح أقدم وزير بالبلاد، والمستمر بمنصبه منذ وزارة الببلاوي وحتى الآن، وما زال هناك وزيران آخران حاليان مستمرين منذ وزارة محلب للكهرباء والخارجية، و8 وزراء مستمرين الآن منذ وزارة شريف إسماعيل أبرزهم البترول والتموين والتخطيط.
ووجد المواطن نفسه محاصراً بسلوكيات اجتماعية غريبة على المجتمع المصري، من قتل واختطاف وتحرش وإدمان وارتفاع لمعدلات الإلحاد، وموجات متتالية من الغلاء الشامل بداية من سندوتش الفول والطعمية وطبق الكشري كوجبات شعبية، إلى البيض والجبن والحلاوة والدواجن واللحوم وغيرها من السلع الغذائية، إلى جانب الرفع المتوالي لأسعار الخدمات الاحتكارية للدولة من كهرباء وغاز طبيعي ومياه للشرب ومشتقات ومواصلات عامة، ليصبح الشاغل الأول له هو كيفية تدبير نفقات طعام من يعول.
وانسحب الكثيرون من الحياة العامة بعد أن أدركوا أنهم مفعول بهم وليسوا شركاء في الوطن، في ظل وصاية نفر من ضباط الجيش عليهم منذ عام 1952 وحتى الآن، وبعد أن أدركوا أنهم لا يواجهون تسلطاً من قبل السلطة الحاكمة فقط، ولكنهم محاصرون بتحالف محلي إقليمي دولي تحددت أهدافه في إجهاض أية محاولة للنهضة، وحتى تظل مصر تأكل من زراعة غيرها، وتستورد أكثر مما تصدر، وتبيع أصولها لتسدد ديونها، وتنفق على أقساط وفوائد ديونها أكثر مما تنفقه على التنمية أو على الصحة والتعليم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.