تقول العرب قديماً في أمثالها إن لسان العربي حصانه، إن صانه صانه، وإن خانه لخانه، وفي منطقة المغرب العربي يقولون في أمثلتهم الشعبية "اللسان الحلو يرضع اللبة"، واللبة هي أنثى الأسد أي اللبوة، والمقصود هنا أن حسن الكلام يقود قائله إلى مراحل عظيمة من الإنجاز والفخر والاعتزاز، فيبلغ بحسن خطابه وانتقائه للألفاظ مرحلة ومكانة في نفوس المخاطبين، وفي المشرق يقولون: "إن الملافظ سعد".
وقد خانت الكلمات والتوقيت والظروف السياسية والإقليمية وحق الجيرة، رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الدكتور أحمد الريسوني، فأساء لموريتانيا باللفظ عند استخدامه كلمة "غلط"، ثم حرَّض جهاراً نهاراً على الاقتتال الشعبي بين الجارتين الجزائر والمغرب بالدعوة إلى الزحف إلى "تيندوف" الجزائر، واستحداث مسيرة أخرى على خطى المسيرة الخضراء للملك الحسن الثاني، والتي كان لها تداعياتها، وما أعقبها من شقاقٍ وخلافٍ في المنطقة، اقترب من مرحلة المواجهة المباشرة بين قوتين عربيّتين لها وزنهما في التاريخ العربي والإسلامي وما يجمعهما شعبياً وجغرافياً وتاريخياً أكثر مما يفرقهما، لولا السياسة والشحن الإعلامي.
ودعونا في بداية حديثنا هذا نتَّفق على أن الريسوني الذي يمثل رئاسة الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين قد جانب الصواب، ولم يكن موفقاً في خطابه الناري هذا، فمن الناحية الزمنية الوضع في المنطقة مشحون، وهناك حرب إعلامية وسياسية بين الجزائر والمغرب، وكان الأولى بالرجل، الذي يترأس اتحاداً يضم علماء الأمة، أن يكون على رأس دعاة المصالحة وإصلاح ذات البين بين جارين مسلمين، وشقيقين. في ظل إقبال الأطراف الدولية المعروفة بإشعال المناطق، مثل: العدو الأول للجميع "إسرائيل" ومثل "إيران"، وروسيا، ناهيك عن الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وغيرهما، وهي أطراف تهمهم المناطق المشتعلة أكثر من المناطق الهادئة التي تتسم بالسلم والمصالحة .
أما من الناحية السياسية فقد أخطأ الرجل، خاصة في استفزازه لجارته المحايدة موريتانيا، فالمعروف أنّ موريتانيا التزمت الحياد في قضية "الصحراء" منذ السبعينيات، وهي طرف في الحرب، ولها تاريخياً نصيب في منطقة الصحراء الغربية، فما بالك عندما يصدر تصريح كهذا، ويطالب ضمنياً بضم موريتانيا، ويقلل من قيمتها، ويفقد المغرب حليفاً سياسياً، كان مرشحاً للانضمام للدول التي تعترف بمغربية الصحراء، خاصة مع إقبال العديد من الدول على فتح سفارات لها في مدينة لعيون المغربية بحكم الواقع والتاريخ، فقد أحرج الريسوني حلفاء المملكة المغربية في موريتانيا، وقد يحوَّلهم بتصريحاته إلى خصم سياسي، وإلى طرف مضطر للدفاع عن أرضه وتاريخه في ظل من يزعم أن وجوده "غلط"، وأن ملك المغرب أخطأ بسكوته عليهم، زاعماً في الوقت ذاته أن بعض الشيوخ الموريتانيين بايعوا ملك المغرب ما قبل الاستعمار، وسنعود لهذا النقطة لنفصل فيها لاحقاً.
والريسوني أيضاً قد تأثّرت شعبيته، خاصة من التيار الإسلامي في كل من موريتانيا والجزائر، فتوالت البيانات المدينة لتصريحاته غير الموفَّقة، يضاف إلى ذلك تحويل قطاع شعبي كان مؤيداً لفكرة أحقية المغرب "بالصحراء" إلى خصوم، قد يشعرون أنّ المغرب مملكة ذات أطماع توسعية.
هذا حديث السياسة وخطابها، أما عن التاريخ فالمعروف أن موريتانيا الحديثة تأسست في عهد الاستعمار الفرنسي وما بعده أي ما بين الخمسينيات والستينيات، وقد كانت إمارات وقبائل متناحرة يقتل بعضها بعضاً، وكل إمارة كانت مستقلة وإن كان ما زعم الريسوني بقوله إن بعض المشايخ الموريتانيين لهم بيعة لملك المغرب وانتماء، إن كان ما زعم صحيحاً، فليس فيه أي دلالة على تبعية موريتانيا الحديثة للمغرب تاريخياً، لأنه لم تكن هناك دولة، بل بعض الإمارات والقبائل، القبائل والإمارة قانونها وبيعتها ملزم لها هي فقط، أي إن من بايعوا الملك المغربي حينها تلزمهم بيعتهم، فليبحث عنهم الريسوني ويضمهم للمملكة، كما أن التاريخ مقسم اليوم ومنه مرحلة ما قبل الاستعمار وما بعده، فقد أنشئت دول وأُسست دساتير ورُسمت حدود جغرافية، ودُفن الماضي ولن يعود، فيجب على الجميع اليوم التعامل مع الأمر الواقع، هناك شعب في موريتانيا وحكومة، وعلم ونشيد ودستور على الجميع وعلى رأسهم الريسوني احترامه، وقد سبق الريسوني في خطابه هذا خطاب آخر لرئيس حزب الاستقلال حميد شباط، وحدث يومها أمر أشبه بما حدث اليوم، وكادت أن تندلع الحرب يومها بين شقيقتين بسبب كلمة قالها رجل، وقد عادت العلاقات أحسن مما كانت عليه وهو ما نتمناه اليوم، فلا غنى لموريتانيا عن جارتها الكبيرة في عيون أهلها المغرب، فهي العمق التاريخي والجغرافي، كما لا غنى لها عن الجزائر، ولا غنى للجارتين الكبيرتين ولا للشعبين الجزائري والمغربي عن العلاقات التاريخية وروابط الدم التي بينهم وهي أكبر من نسردها في مقال.
ولأن الريسوني عالم من علماء المسلمين، والخطاب معه ديني وشرعي أكثر من كونه تاريخياً وسياسياً فإننا نذكره بقول الله تعالى في سورة النساء 114: {لَّا خَيْرَ فِى كَثِيرٍۢ مِّن نَّجْوَىٰهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَٰاحٍ بَيْنَ ٱلنَّاسِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}.
وقد نزلت الآيات في حق صحابي مسلم سرق درعاً وبعض الدقيق وأراد إلصاق التهمة بجاره اليهودي، ورغم أن الأدلة كانت توحي بأن الدرع المسروقة موجودة في دار اليهودي، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان في طريقه للحكم لصالح المسلم، فإن الله تعالى حكم عن طريق الآيات بتبرئة اليهودي وختم حكمه بالآية: {لَّا خَيْرَ فِى كَثِيرٍۢ مِّن نَّجْوَىٰهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَٰاحٍ بَيْنَ ٱلنَّاسِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}، وهي رسالة عظيمة مفادها أن الخير في مكارم الأخلاق من صدقة ومعروف وإصلاح بالناس وأن الشر في التناجي والتفرقة والنزاع وإلقاء الاتهامات ظلماً وعدواناً.
ونتمنى في ختام مقالنا هذا ونطلب من الجميع علماء ومفكرين ومثقفين وإعلاميين، خاصة في منطقة المغرب المغربي أن يتبنوا خطاب الوحدة وإصلاح ذات البين بين الشعوب، فالمنطقة في خطر كبير والنار مشتعلة أصلاً، فلا داعي لزيادة الحطب، كما نتمنى عليهم أن يتجنبوا الخطاب التحريضي والخطاب الذي يهدم ولا يبني، ويعمر ولا يدمِّر ويفرق ولا يوحد.
فالعالم العربي فيه من الجراح ما يكفي، ولديه من الحروب ما يشغله، لدرجة يمكن فيها القول إن الأرض العربية لم يعد فيها مكان يتسع لقبور جديدة، آن الأوان للجميع أن يفهم أن الحروب والصراعات بين الأشقاء لا تؤدي إلا نتائج كارثية، فالجميع خاسر فيها والشعوب والأوطان أكبر الخاسرين.
ونختم حديثنا بالتنويه إلى أن غلطة موريتانيا ليست في وجودها بعيداً عن المغرب، ولا في وجودها كدولة مستقلة، بل هي غلطة الموريتانيين أنفسهم أبناءً وأحفاداً في عدم بناء دولة قوية، وفي توغل مفهوم القبيلة على مفهوم الدولة، غلطة الانقلابات العسكرية وإهمال التعليم وتجهيل المجتمع وعدم توعيته، غلطة عدم الاعتماد على الذات والإنتاج الذاتي، غلطة استنزاف ثروات البلد الاقتصادية وهي تمتلك الذهب والنحاس قديماً وحديثاً الغاز والنفط، وفي الأخير غلطة عدم احتضان أبنائها والتسبب في هجرتهم وتهجيرهم، نتمنى أن يفهم الجميع الدرس وأن يقرأوا تاريخ الحروب والصراعات، علَّهم يتفقهون ويتعلمون ويعلمون ويعقلون.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.