"حافية في بغداد" هي مذكرات شخصية لكاتبته منال عمر، أمريكية من حيث النشأة والتعليم، فلسطينية الأصل مولودة في السعودية، عملت في الكثير من منظمات الأمم المتحدة الإغاثية في مواقع مختلفة مثل أفغانستان وكينيا، ثم استقالت من البنك الدولي لتعمل في منظمة "نساء من أجل النساء"، وهي منظمة اغاثية، يوضح اسمها طبيعة عملها، ورغم معارضة أهلها بسبب خطورة العمل وضعف موارده، فإنها استطاعت التغلب على المعارضة، بتغليب الدوافع الإنسانية، كانت تلك استجابة لحبها للعراق، حيث عملت من قبل في فرق الأمم المتحدة ضمن برنامج النفط مقابل الغذاء.
مؤسِّسة ورئيسة مجلس إدارة منظمة نساء من أجل النساء، هى زينب سالبي، عراقية الأصل، ناجية من حروب العراق، هدف منظمتها مساعدة النساء في جميع أنحاء العالم. وقد بدأت عملها في البوسنة والهرسك، ثم انتقلت إلى أماكن أخرى.
برنامج المنظمة يركز على حماية وتأهيل النساء الأكثر عرضة للخطر، وعملياً فإن هذا يعنى في العراق النساء الأرامل والمطلقات، أو غير المتزوجات، وبالأخص اللواتى كن المعيلات الرئيسيات في منازلهن.
برنامج المساعدة يبدأ بالتعامل مع التحديات الواقعية المتمثلة في تأمين الغذاء والماء والمأوى، ثم ينتقل إلى تدريب المشاركات على مهارات وظيفية تمكنهن من كسب دخل، يتضمن هذا ورش عمل وجلسات نقاش مع النساء وترتيب مؤاخاة بين النساء في العراق ومن يدعمهن من نساء أمريكا.
تذكر الكاتبة أنه كانت لديها نقطتا قوة أولاهما جوازها الأمريكى الذي يسهل لها القبول الرسمي، وحجابها الذي يجعلها مقرَّبة من نساء العراق المهمشات، وإن كان سبباً للاستغراب أوالاستهجان أحياناً.
عملت الكاتبة في العراق بين عامي 2003 و2005، وقد ظهر كتابها مترجماً الى العربية عام 2014.
لم تكن ممن يؤيدن الحرب الأمريكية على العراق، بل كانت تعتقد أن القوات الأمريكية لم تكن تجلب سوى الدمار للبلاد، وكان كثير من العاملين في منظمات الإغاثة يشاركنها وجهة النظر هذه، وأهمهن فيرن هولاند، التى كسبت سمعة أسطورية في العالم بشأن قضايا المرأة في العراق. كانت فيرن تعتقد أن نافذة الفرص في إيجاد عراق جديد كانت تُغلَق بسرعة، وكانت تخشى أن تدفع نساء العراق ثمن هذا الإخفاق، وقد أصبحت نفسها إحدى ضحايا الإرهاب في العراق الذي تفاقم بعد ذلك بقليل. كلتا المرأتين ركزت على النساء المهمشات، نساء النخبة كان صوتهن مسموعاً.
عند وصولها للعراق وجدت أن الزميل الذي سبقها لترتيب أمور العمل قد قام بتوظيف ثلاثة مساعدين من الرجال، وكان هذا غريباً على منظمة تعمل للنساء ولكن تبين أن ذلك كان ضرورياً، والثلاثة هم كاثوليكي وشيعي متدين وشيعي علماني، وانضم إليهم أحد أصدقائهم السنة فيما بعد.
كانوا أصدقاء من قبل، واستمروا على ذلك رغم انحدار العراق إلى هاوية الطائفية، علاقتها بهم امتدت إلى علاقة اجتماعية مع عائلاتهم وأقاربهم، ذلك وسَّع من منطقة الأمان حولها، وبعد عامين أصبحت زوجة أحدهم. والواضح أنها كانت تحت مجهر عائلة زوج المستقبل تحصي عليها أنفاسها بشكل ودود طيلة إقامتها في العراق.
اتخذت منال مقر عملها في أحد الأحياء الهامشية الفقيرة المطلة على دجلة، ولم تقبل أن تبقى في المنطقة الخضراء، أي المنطقة التي تؤمنها القوات الأمريكية دوناً عن غيرها من مناطق بغداد، جو الخطر أزاله ود الناس، وسرعة تعرفهم عليها، ودعوتها للالتقاء بالنساء في مجالس الشاي. العيش في هذه الأحياء أمكنها بسهولة من التأكيد على أن هذه أحياء يجتاحها الفقر والمرض، وليست مكاناً للبلطجية ومروجي المخدرات، كما كانت تعتقد نساء النخبة في العراق.
تحت سقف معظم هذه البيوت تقيم عدد من الأرامل والمطلقات والنساء غير المتزوجات، أُطلق على الحرب العراقية الإيرانية حرب العوانس، ارتياح رجال الحى لحجاب منال وحماية مرافقيها الأربعة من الرجال، ولنقاشها حول حقوق النساء في الإسلام ساهم في نجاح أول برنامج تدريبي شمل 500 امرأة، جرى تدريبهن على مهن صناعة السجاد والنجارة وتصفيف الشعر، معظمهن أصبحن داعمات لأسرهن.
وفي هذا الحي تقابلت الكاتبة مع منى حسين، التى أصبحت العمود الفقري للمنظمة فيما بعد، مني عانت من زوجها عدة سنوات قبل أن يلقى بها خارج المنزل، حرُمت من ابنها وابنتها، أصبحت احدى رقيقات العصر الحديث، تعمل سخرة في خدمة زوجات أشقائها الأربعة، يعيش كل الأشقاء بعائلاتهم في غرفة واحدة تقسمها ملاءات الأسرة إلى قسم خاص بكل عائلة، والعائلة تشترك مع اثنتي عشرة عائلة أخرى في مرحاض واحد.
حكاية مني حكاية تتكرر كثيراً في العراق، تروي الكاتبة حكاية كلثوم، ابنة الثالثة عشرة، التي تزوجت قسراً، زوجها يضربها حتى تشاركه الجنس، تهرب لتسقط في يد إحدى شبكات الدعارة، تضطر الكاتبة إلى البقاء معها في مركز الشرطة طيلة الليل، المركز محاَصر بأفراد عائلتها الذين يريدون قتلها، تهرِّبها الكاتبة بصعوبة من مكان إلى مكان، الوزير لا يرغب في المساعدة، دار الأيتام لا تقبل إيواءها، دار الأطفال المعاقين المهملة والتي يغوص الأطفال فيها في بولهم ليست المكان المناسب، القائمون على الأطفال بغيضون وكثيرو الفظاظة، مصالحة مع العائلة قد تنهي المشكلة، حتى كلثوم شعرت بأنها يجب أن تعود لأهلها، وأن تقبل بالإعدام لإنقاذ سمعة شقيقاتها الأربعة.
ذاكرة العراقيين ما زالت تستعيد ذكرى قطع رؤوس 2000 امرأة متمردة على أيدي فدائيي صدام عام 2000، أُلقيت رؤوسهن أمام بيوت عائلاتهن في استعراض علني، اتُّهمن بالدعارة، وعوقبن دون محاكمة.
حكاية ثالثة أختان رفض أبوهما تزويج ابنته، يؤلف الخاطب المرفوض عصابة، تختطف البنتين وتغتصبها، كيف تستر العائلة الفضيحة؟ السلطات ترفض تقديم المساعدة، لأنها تعتقد أن البنتين كانتا على علاقة مع الخاطفين، والأطباء يرفضون الفحص لإثبات حالة الاغتصاب، إثباتها قد يؤدي بهن للموت من طرف العائلة المغتٓصبة، أو من طرف أقارب المغتصِبين، كما أن منظمات الإغاثة الغربية لو عملت على إيواء المغتٓصبات ستصبح في خطر، وستتعرض لعمليات قتل من قِبل أطراف في المجتمع المحلي!
حكاية رابعة، مراهقتان تقنعان أخواتهما بالمغامرة مع الجيش الأمريكى، الأعمار بين التاسعة والسادسة عشرة، تدَّعيان أن عائلتيهما تدبران لتفجير موقع للأمريكان، وتريدان أن يأخذهم الجيش إلى أمريكا، تفشل الكاتبة في إيجاد حل، ويتم اتهام شقيقين باختطاف البنات، ليس للقصة نهاية، هل أُعدم المتهمون؟
ماذا حل بالبنات اللواتي يردن البقاء مع الجيش الأمريكي، ويرفضن كل الحلول الأخرى؟ أما حكاية جمانة فهي مختلفة قليلاً، آشورية تزوجت من هندي وُلد في العراق قبل أن تحصل على موافقة الحكومة، سبب ذلك لها السجن، في سجن الكلاب الشاردة، وتمت تصفية زوجها، كانت البقع المخيفة على جسدها دلائل لا تمحى على ما كان، وقد تسربت قصتها إلى "واشنطن بوست"، وهكذا أصبح على السلطات الجديدة حمايتها خوفاً على حياتها وحياة الشهود من طالبي الثأر الباقين على ولائهم للنظام المنهار. قصص كثيرة كهذه، ولكن الأكثر غرابة أن القوانين التي تحمي المرأة وتعطيها حقوقاً قد أصبحت مثار تجاذب وتنازلات بين أحزاب البرلمان العراقي الجديد، وصورت أحياناً على أنها ضد الإسلام، وقسمت الأنظمة العراقية النسائية الى أطراف متنابذة.
الأشهر الستة الأولى من مهمتها في العراق كانت آمنة، فقد كان الناس متفائلين بالغزو الأمريكي، مجمعين على سعادتهم بالتخلص من الحكم القديم، متفائلين بالمستقبل، وقد وفر هذا للكاتبة فرصة التمتع بزيارة مطاعم بغداد، وشارع المتنبي، حيث كنوز الكتب، والشوارع التاريخية التى كثيراً ما كان يباع فيها إنتاج الفنانين العراقيين من لوحات فنية مذهلة، بعدها بدأ التحول في موقف الناس مرتبطاً بفشل الساسة العراقيين وحلفائهم الأمريكان في إحداث تغيير، واستمرار الفساد الإداري وامتداده إلى الفساد المالى الذي يتناول أعمال معظم المقاولين الذين يتولون تنفيذ المشروعات الضرورية، وبالتدريج تحولت القوات الأمريكية من قوات تحرير إلى قوات احتلال، وخسرت الكثير من تعاطف الناس.
أصبح العاملون في الإغاثة مستهدفين بالقتل والاختطاف. حاولت منال أن تبقى رغم ذلك، ولكنها وجدت أن الخطر لم يكن يهددها وحدها، بل يهدد مساعديها الأربعة، ففي فترة ما اضطروا جميعاً إلى الانتقال ليسكنوا في الدور الأول من البيت الذي تقيم فيه، الأمر الذي يشكل ازعاجاً بالغاً لأسرتها، وعجل بخروجها.
بعد ذلك اختفى أحد المساعدين، وما زال مفقوداً، كما هدد الآخرون بالقتل، وقتل صهر يوسف زوجها، مما تسبب في إلغاء الكثير من مراسم الزواج، وأصبحت جارتها التي تأتيها بمعجنات الإفطار أرملة وقُتل رئيس البلدية المحلية في الحي الذي تسكن فيه، قتلت مارغريت حسان رئيسة إحدى منظمات الإغاثة واختطف ابن ريما خلف رئيسة منظمة نساء ما بين النهرين وقُتلت المترجمة رغد. أصبح القتل سيد الموقف بين أعوام 2005 و2007.
مذكرات آسرة مليئة بالشجن، مما يلفت نظري في معظم المذكرات التي قرأتها مترجمة عن الإنجليزية، طريقة الكتابة التي تحول حوادث اليوم إلى روايات وحكايات تسيطر على القارئ، يبدو أن دور النشر الأجنبية لديها من يتخصص بإخراج الكتب أسوة بمخرجي البرامج المرئية سواء بسواء.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.