المجتمع القارئ باللغة العربية وقوامه ٣٥٠ مليون مواطن، مجتمع تفترسه الأمية الدراسية، وتتغول عليه الأمية الثقافية، مجتمع فقير إجمالاً، غني طبقياً، قبائلي رجعي من قمته إلى قاعه. في حاله تلك يعيش فساداً واستبداداً فريداً، وهو مستكين مستسلم، فلا يطمع في الخروج من دوائر الاستبداد والفساد، وآمالنا في الانعتاق من دوائر الإفقار أضعف من حظوظ إفريقيا في جنوب الصحراء!
جزء كبير من فساد الثقافة العامة هو زواجها العرفي من السلطة السياسية التي توفر الحياة وهواء التنفس في بيئة قاحلة فكرياً، وشحيحة حتى الموت جوعاً مالياً. في هذا السياق تأتي الجوائز الثقافية العربية والمصرية المرتبطة في سوادها الأعظم بمؤسسات الحكم، وأجندتها السياسية المرتكزة على أساس مناكفة الحركات المحافظة الإسلاموية، لا رغبتها في إحداث نهضة حضارية أساسها فكر تحرري تقدمي، سعياً وراء بناء مستقبل وسط العالم اليوم. بل إن المستهدف دائماً هو الانفراد بالمجتمع في تجربة فريدة لها من أشكال المدنية والحداثة ما لا يتعدى حدود الأبراج الشاهقة والطرق السريعة وأضخم الكنائس والمساجد، بينما تبقى المجتمعات مغلولة لسلطاتها الحاكمة الزمنية والدينية الرسمية ومؤسسات الضبط والإحضار التي لا رقيب عليها.
كنت قد كتبت مراجعة لرواية شكري المبخوت "الطلياني" التي فازت بجائزة "البوكر" عام ٢٠١٤، وكنتُ قليل الانتقاد، ولكن أستاذ الأدب الذي دخل عالم الأدب غازياً بروايته الأولى عن عمر 52 عاماً، ليفوز بالجائزة الشهيرة، ثم يعود ليطل على "البوكر" من جديد رئيساً لهيئة محكمي الجائزة في ٢٠٢٢، أعلن فوز رواية الكاتب الليبي محمد النعاس "خبز على طاولة الخال ميلاد"، والتي تحمل روح وفلسفة المبخوت نفسها!
صحيح أنني أثمن حرية الكاتب والناقد، ولكن المنحى العام لهيئات التحكيم التي هي بكل ثقة وتأكيد مسيسة لأبعد الحدود، اختارت التعبير عن الواقع العربي بلغة صريحة جنسياً، وميل واضح لممالأة "الغرب" في قضايا الاغتراب والتعددية وقبول الآخر، دون انتقاد للجماعات السياسية أو السلطة إلا في أضيق الحدود، أو على هامش الموضوع.
ولو نظرنا لمجمل الجوائز الثقافية العربية فإنها تعتمد قوائمها وفائزيها ما بقوا بعيدين عن لمس "الربيع العربي" أو مناقشة دوافعه أو حتى مناقضة أطروحاته، بل وكأن الكُتاب والروائيين العرب قد قرروا جملة وتفصيلاً إغفال الربيع العربي وأحداثه وإيجابياته وسلبياته وشخوص أبطاله وأضداد أبطاله، بل وغض النظر تماماً عن أية بادرة في استشراف واقع غير الواقع الخائب الذي نعيشه.
حتى صارت الحرب الأهلية في ليبيا أو سوريا أو اليمن أو الاشتباك السياسي في العراق، أو الديكتاتورية المولودة في تونس ومصر والجزائر والسودان لا تشكل أية هواجس لدى مثقفيه وكتابه طليعة وظهيرة!
ألم يكتب أحدٌ من الروائيين ملامساً لأي من تلك الأحداث العظام؟ أم أن النشر ومقصلة الرقابة قد تكفلا بقتل أية مبادرة للكتابة؟ أم أن مؤسساتنا الثقافية تقوم بدور فعال ونشيط في غسيل الأمخاخ من الخليج إلى المحيط لجعلنا ننسى ما حدث وأن نشتري وعياً جديداً، لنقول إنه ليس بالإمكان أبدع مما كان؟
يساورني قلق عميق بأن اللغة العربية بتاريخها وتراثها، وحاضرها وأفكارها هي مكرسة تماماً لصيانة بحيرة الرجعية والحالة الاستبدادية وسط عالم يتقدم ويتحرر، لن أجعل أوروبا مقياساً كما فعل طه حسين أو أحمد لطفي السيد أو محمد حسين هيكل!
لكن، ألا يمكن أن نهتدي بتجربة تركيا في التحول من الديكتاتورية إلى نظام أقل ديكتاتورية، أو حتى العودة للديكتاتورية من جديد على يد البطل نفسه؟ أن نقيس قدر الحريات التي وفرها النظام الإيراني وفكرة تداول السلطة "الشكلي" في شكل انتخابات رئاسية وبرلمانية منتظمة؟
الخلاصة
عودة للأدب؛ أعتقد أن الرواية "خبز على طاولة الخال ميلاد" رواية متوسطة، تليق بحكام "البوكر"، ولتلخيص مراجعتي هل لو كتبت تلك الرواية بلغة أخرى مثل الإسبانية أو الفرنسية تكون جديرة بجائزة "البوكر" بتلك اللغات؟
عل كلٍ، تقوم النخبة المثقفة من الأدباء والأكاديميين العرب بتذليل مهمة الاستبداد وتكريسه عن طريق إهمال القضايا الأساسية للمواطن العربي والمشكلات التي تعيق تقدمه، وتوجيه اللوم الدائم للمجتمع ومطالبته بتوفيق أوضاعه وفقاً لهوى السلطة، مع استبعاد متعمد لكل ما يمس السلطة من نقد أو مساءلة حقيقية!
أجاهد نفسي هذه السنوات كيلا يصيبها الإحباط من قلة النشر والمطبوعات، وتفشي التافه، وتلازم كل تلك النواقص باللغة العربية في هذه الحقبة المرة، مستبشراً بالدعاء الشعري:
أَلا أَيُّها اللَيلُ الطَويلُ أَلا انجَلي ** بِصُبحٍ وَما الإِصباحُ مِنكَ بِأَمثَلِ
فَيا لَكَ مِن لَيلٍ كَأَنَّ نُجومَهُ ** بِكُلِّ مُغارِ الفَتلِ شُدَّت بِيَذبُلِ
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.