مع اقتراب بدء جلسات المحور السياسي للحوار الوطني، وبمناسبة ما يثار حول قانون جديد للانتخابات البرلمانية، خلافاً للقانون الذي جرت على ضوئه انتخابات 2015 و2020، يثار هنا سؤال مهم: لماذا يطلب الآن وضع قانون جديد للانتخاب؟ وكيف يعدّل؟ في هذا المقال نحاول الإجابة عن السؤال الأول. وفيه نلاحظ أن كل الشواهد تؤكد الحاجة للتعديل للأسباب التالية:
1- بنية النظام السياسي المصري بنية حزبية
ارتبطت بنية النظام السياسي بوجود الأحزاب السياسية، وذلك منذ التعددية الحزبية الثالثة التي بدأت في نوفمبر/تشرين الثاني 1976 بإعلان السادات تحويل المنابر الثلاثة إلى أحزاب، وفي هذا الصدد يمكن رصد ما يلي:
أ-إن الدستور المصري الحالي، ينص في المادة 5 منه على أن "يقوم النظام السياسي على أساس التعددية السياسية والحزبية، والتداول السلمي للسلطة…". وهو ما يجعل ضرورة أن يكون للأحزاب السياسية رقم معتبر في مسيرة الحياة السياسية. ولم يتوقف الدستور الحالي عند هذا الحد، بل ذكر في م74 أن "للمواطنين حق تكوين الأحزاب السياسية بإخطار ينظمه القانون…". وذكر في م146 بشأن تشكيل الحكومة ما يفهم منه بوضوح خوض الأحزاب للانتخابات بقوله: "يكلف رئيس الجمهورية رئيساً لمجلس الوزراء من الحزب أو الائتلاف الحائز على أكثرية مقاعد مجلس النواب…". والمعروف أن بروز أحزاب الأكثرية وائتلافات الأكثرية بين الأحزاب ما كان لها أن تقوم بشكل جلي إلا في نظام انتخابي حزبي نسبي. إضافة لكل ما سبق، لم يمنع الدستور بل رجح، وجود النظام النسبي في خيارين ضمن 3 خيارات، بالإشارة لحق للشارع القانوني فعل ذلك في م102 منه بقوله: "ويجوز الأخذ بالنظام الانتخابي الفردي أو القائمة أو الجمع بأي نسبة بينهما…".
ب-إن القول بأن الأحزاب السياسية المصرية أحزاب هشة وغائبة عن الشارع، هو أمر قد يتفق عليه البعض أو يختلف، لكن المؤكد على فرض الاتفاق مع تلك المقولات، أن الأحزاب في كافة بلدان العالم تنتعش عندما تجد البيئة المهيئة لذلك. ومما لا شك فيه أن واحداً من تلك المناحي المهيئة لذلك هي وجود نظام انتخابي نسبي، يجعل الأحزاب أكثر تفاعلاً مع الشارع، ويجعل الشارع أكثر تعاطياً معها.
2-البحث في دستورية النظم الانتخابية يعزز تعديل القانون
من المهم للغاية وضع قانون جديد للانتخاب؛ لأن القوانين السابقة في المجالس الشعبية والنيابية جرى الحكم بعدم دستوريتها، وقد تفاعل نظام مبارك مع أحكام المحكمة، هنا نشير لما يلي:
أ-الحكم في 16 مايو/أيار 1987 بعدم دستورية قانون الانتخاب النسبي (قانون 114 لسنة 1983)، وقد سبق ذلك حل مجلس الشعب عام 1986، بعد استشعار السلطة بقرار الحل.
ب-الحكم في 19 مايو/أيار 1990 بعدم دستورية قانون الانتخاب النسبي لكافة مقاعد مجلس الشعب، مع وجود مقعد فردي واحد في كل دائرة من دوائر الجمهورية الـ48 (قانون 188 لسنة 1986).
وبطبيعة الحال، جاء قرار المحكمة الدستورية في المرتين السابقتين من حيث الشكل بسبب عدم منح المستقلين فرصاً متساوية للحزبيين في الترشح. لكن لم تغفل عين المراقبين هنا عن أن القيود المفروضة على تأسيس الأحزاب السياسية وقتئذ، والموضوعة في قانون 40 لسنة 1977، والتي تقوض حق المواطنين في تأسيس أحزاب، كانت أيضاً وراء قراري المحكمة، التي آثرت ألا يقتصر حق الترشيح على الأحزاب القليلة القائمة، وهي أحزاب محدودة العضوية، ما يجهض حق المستقلين بالفعل في الترشيح في الانتخابات.
ج-حل المجالس الشعبية المحلية عام 1988، لعدم دستورية قانون الانتخابات بالقائمة المطلقة، وإجراء انتخابات جديدة في العام نفسه على أساس القائمة المطلقة، إضافة لمقعد فردي واحد، مع إلغاء مقعد المرأة.
د-إجراء انتخابات المجالس الشعبية المحلية عام1996، وفقًا للنظام الأغلبي عبر الأسلوب الفردي، بعد حكم المحكمة الدستورية في فبراير/شباط 1996 بعدم دستورية الانتخابات التي جرت على أساس النظام الأغلبي بأسلوبي القائمة المطلقة والمقعد الفردي الواحد.
ه-حل مجلس الشورى وإجراء انتخابات جديدة لكل أعضاء المجلس، في الانتخاب الرابع له عام 1989، بعد أن حكمت المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية قانون انتخاباته التي جرت بالقائمة المطلقة منذ تأسيسه عام 1980.
والحكم بعدم دستورية قانون انتخاب مجلس الشعب المنتخب عام 2012 (الجريدة الرسمية ع24 تابع أ في 14/6/2012) بسبب مزاحمة المرشحين الحزبيين للمستقلين في الشق الفردي (الثلث).
وهكذا، أعجزت أحكام عدم الدستورية البرلمان المصري والمجالس الشعبية المحلية منذ عدة عقود، ما يجعل هناك ضرورة في وضع نظام انتخابي جديد، يصمد أمام دعاوى عدم الدستورية، نظام مشرعن من قبل الدستور الحالي، نظام لا ينتمي البتة للقائمة المطلقة الذي هجرته النظم الانتخابية حول العالم.
3-المناخ والبيئة السياسية تفضي للأخذ بنظام غير القائمة المطلقة
يعد تعديل قانون القوائم المطلقة المعمول به حالياً بنظام جديد يجمع بين القوائم النسبية والفردي، هو النظام الأكثر ملاءمة للبيئة السياسية المصرية للأسباب التالية:
أ-أن النظام المذكور يشكل نوعاً من الانفتاح السياسي، وأملاً في جعل المناخ العام أكثر رحابة، بعد أن تعرض هذا المناخ لثلة من الانتقادات طالت النظام السياسي المصري المؤسس عقب 30 يونيو/حزيران 2013، بسبب كثرة المعارضين للحكم المدني المؤسس وفق هذا النظام، وذلك تحت دعاوى كثيرة مرتبطة بالتضييق على حقوق الإنسان، وانسداد مناخ حرية الرأي والتعبير، وتقويض نشاط الأحزاب السياسية، وتقييد حرية الصحافة والإعلام، وتكبيل حركة منظمات المجتمع المدني… إلخ.
ب-أن النظام الانتخابي الذي يجمع القائمة النسبية والفردي، يسعى إلى وضع قيود على أية إمكانية لتسلل جماعة الإخوان المسلمين إلى البرلمان، عبر الإقرار بنظام التمثيل النسبي من خلال مشاركة الأحزاب السياسية المشروعة والقائمة، على عكس النظام الأغلبي الذي يمكّن تلك الجماعة من الوثوب على مقاعد المجلس.
ج-أن النظام الانتخابي الجامع بين النسبية والفردي، يسعى إلى تمثيل المعارضة السياسية، وهو أمر يحقق للنظام السياسي أكثر من هدف؛ فهو أولاً يعد فتحاً ومتنفساً للقوى السياسية المختلفة في الشارع. وهو ثانياً، يكسب النظام شرعية في الداخل والخارج، ولا يوصمه بالانغلاق. وأخيراً وليس آخراً، فإن هذا النظام يجعل البرلمان مطعماً بعناصر من الأطياف السياسية المختلفة، ما يحقق نوعاً من الرقابة الجادة على أعمال السلطة التنفيذية.
4-إيجابيات التمثيل النسبي في التغلب على مثالب النظام الأغلبي
ارتبط الأخذ والدفاع عن النظام الأغلبي (وتعتبر القائمة المطلقة أحد وسائله) ورفض النظام النسبي بعديد الحجج التي يمكن دحضها وتفنيدها على النحو التالي:
أ-أن نظام الانتخاب الأغلبي هو نظام انتخاب يحقق علاقة مباشرة بين المشرع والناخب. بالمقابل تبرز الآثار السلبية للنظام الأغلبي منذ تطبيقه في مصر وعديد بلدان العالم الثالث، بل وبعض بلدان العالم المتقدم، في ظهور العصبيات والنعرات الاجتماعية، بسبب كونه يعتمد على شخصنة الحياة السياسية.
ب-إن النظام الأغلبي يتسم بالسهولة واليسر في حساب الأصوات عقب عملية الاقتراع، خاصة في البلدان النامية. بالمقابل فإن نظام التمثيل النسبي هو نظام رغم أنه مركب وأكثر تعقيداً، إلا أنه لا ينفي الآخر (المرشح والناخب) عكس النظام الأغلبي في شكله الفردي، الذي يستبعد، على وجه العموم، المرشح الفرد صاحب الأقلية لمجرد حصوله على 49% من أصوات الناخبين. والمؤكد أن المشكلة تكون أكبر في القائمة المطلقة؛ حيث يستبعد هذا النظام المرشحين أصحاب الأقلية بالجملة لحصولهم على أقل من 50%.
ج-بسبب العلاقة المباشرة بين الناخب والمشرع نتيجة ضيق الدوائر الانتخابية، يعتبر النظام الأغلبي جيداً من زاوية دراية المشرع بحاجات الناخب المباشرة في دائرته. وبالمقابل فإن نظام التمثيل النسبي هو نظام يجعل المشرع ممثلاً للأمة، وليس مجرد ممثل للقرى والكفور والنجوع. فالنظام الأغلبي ربما يصلح لانتخابات المجالس الشعبية المحلية؛ لأنه يأتي بممثلين للجهويات والنواحي، مقابل النائب ممثل الأمة بأسرها في الانتخابات البرلمانية.
د-يرتبط بما سبق مباشرة، القول بأن النظام الأغلبي يحقق معرفة المشرع لاحتياجات الناخب وطرح قضاياه في البرلمان. بالمقابل فإن النظام النسبي هو نظام ينتمي للسياسات العامة المثارة داخل البرلمان. بعبارة أخرى، فإنه مقابل حديث ممثل الأول عن الجمعية الزراعية في قرية "س"، أو بناء معهد ديني أو كنيسة في مركز "ص"، أو أزمة توزيع الخبز في محافظة "ع"… إلخ. فإن مشرعي النظام النسبي يتحدثون بالبرلمان عن أحوال الجمعيات الزراعية والزراعة في الدولة، ودور العبادة في ربوع الجمهورية، وسياسة توزيع الخبز في القطر ككل… إلخ.
ه-خلال العملية الانتخابية يقوم مرشحو النظام الأغلبي بلقاءات مباشرة بالناخبين في الدوائر الضيقة بطبيعتها، ويطرح بعضهم خلال ذلك وعود، ويقومون بتربيطات شخصية لحصد المكاسب، ولدفع الخصوم للخسارة في مشهد ديمقراطي جيد. بالمقابل يطرح مرشحو النظام النسبي برامج عامة وفق احتياجات دوائرهم الواسعة بطبيعتها، ما يجعل تربيطاتهم الانتخابية حول سياسات، على عكس مرشحي النظام الأغلبي المضطرين إلى اللعب على عواطف الناخبين، واستغلال أمية الكثيرين منهم، وبطالة بعضهم عن العمل، وعوز الكثيرين منهم، عبر الرشاوى الانتخابية، وشراء الأصوات، والعنف المادي عامة والجسدي خاصة، وأعمال الشحذ الديني. وقد عانى المجتمع المصري كثيراً جراء كل ذلك، وهي كلها أمور بيئتها غير قابلة للوجود أصلاً في نظم التمثيل النسبي، حيث التنافس في دوائر واسعة، والتباري حول برامج لا حول أشخاص.
5-البيئة الدولية تعزز الأخذ بالتمثيل النسبي
مع أهمية أن يحصل النظام الجديد على رضاء الداخل، من المهم أن يحظى برضا الخارج، وفي هذا الصدد نذكر بما يلي:
أ-أن عدد البلدان التي تأخذ بالنظام النسبي والنظام المختلط يبلغ زهاء 103 دول، مقارنة بالذين يأخذون بالنظام الأغلبي وعددهم نحو 90 دولة (كتاب أشكال النظم الانتخابية (مترجم)، الناشر: المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات، السويد، 2005)، ولا نبالغ بالقول إن من يأخذ بنظام القائمة المطلقة في نظم الانتخاب الأغلبي هو في انحسار مستمر، حيث بلغ عدد هذه النظم وفقاً لإحصاء المصدر السابق عام 2005 أربعة نظم فقط هي الكاميرون وتشاد وجيبوتي وسنغافورة. وهناك دولة واحدة على الأقل من تلك الدول الأربع هجرت هذا النظام؛ "تشاد".
ب-قد يبرر البعض أيضاً استمرار الأخذ بالنظام الأغلبي بأي صورة من صوره، بأن معظم دول العالم المتمدين تأخذ بهذا النظام. وعلى الرغم من أن تلك المقولة تبدو كأنها حقيقة، إلا أن الواقع لا يشير إلى ذلك. إذ إن الكثير من النظم السياسية المتمدينة، أخذت (وما زالت بالفعل) بهذا النظام الانتخابي عقب سنوات طويلة مر بها تاريخها الانتخابي في ظل النظام النسبي. حتى إن تلك النظم السياسية الآن عندما أخذت وما زالت بالنظام الأغلبي، كان المواطنون فيها أكثر تسييساً، ومستوضعين في قوالب سياسية حزبية، ما جعل الانتخابات بالنظام الأغلبي في تلك البلدان تجرى في ظل وجود أحزاب قوية ومرشحين حزبيين أقوياء، هم الأغلبية الكبيرة بين المترشحين في الانتخابات في تلك البلدان، وقد جعل كل ما سبق أكثرية الناخبين، رغم وجود النظام الأغلبي، يختارون معظمهم ممثليهم على أسس حزبية، وأيديولوجية، وفكرية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.