"قد كفاك ما جرى دماً من جفوني" لَم تَكن الضحكة العالية جداً، المتقطعة سخريةً، المتألمة قلباً، الحالمة رُوحاً، المُؤنبة شعورياً، التي انطلقت من أحد رواد حضرة الشيخ ياسين التهامي بعد أن صَدح بهذه الجملة في قصيدة "يا حبيبي ذاب قلبي" ذات مَولد، فرح، أو احتفالية، لا أعلم على وجه التحديد، لكنها كانت واحدة من الأدلة الدامغة التي أسرت قلبي بعالم ياسين التهامي في كيف أن هذا الرجل الصامد على خشبة مسرح شعبي باسط جناح صَوته السماوى على الجميع بمشاعر لا براح لها..
الشيخ ياسين التهامي سليل المعاهد الأزهرية وأول من أسس لإنشاد الشعر الصوفي بطريقة سليمة، بدلاً من العامية التي سيطرت طويلاً على نمط الإنشاد المصري في موالد الأولياء والعارفين بالله..
شعر الحلاج، محيي الدين بن عربي، عمر بن الفارض، والسهروردي، حاضر بقوة في إنشاد ياسين التهامي، بل إن هذه الشخصيات تصحبه على الدوام كظلٍ من مسرح الشارع إلى ما تحت قبة الأوبرا وإلى الشمال البارد في أوروبا؛ حيث أُطلق على ياسين التهامي في إسبانيا ياسين العظيم ظاهرة الشرق..
الشيخ ياسين التهامي لا يمتهن الإنشاد، بل هو سفير القصيدة الشعبية يَمتطي صوته الشَّجي كفارس بين أبيات القصائد المكدسة بالحب الخالص والصوفية الراجلة بين العامة على تلقائيتها دون فلسفة مرهقة ووقفات مُحيرة للعقل.. يركض التهامي فارساً بين التربيعات الشعرية وينثرها للجمهور في لغة سلسة وإحساس أكثر قرباً غير مفتعل التنميق ولا مقعّر الحروف والأداء، يَروي الجميع بالفلسفة والمشاعر بالإحساس الشعبي الدارج، يرتقي بالجَمع على مَهلٍ.
إنه يغمض عينيه ويستسلم للغرق في القصيدة أمناً على صَوته، إحساسه، حبه، مشاعره، وصوته يطفو به لا إلى السطح فقط بل إلى السماء ينثر ظل الأبيات من داخله إلى قلوب الحاضرين..
في وجود ياسين التهامي الآلاف هائمون. يكفي الإعلان عن حفلة أو مولد أو فرح سيحضره الشيخ ياسين إلا واصطف المحبون، المعجبون، المتسائلون، الحائرة قلوبهم، القابعون في الحزن، الباحثون عن الله، رُواد النظر إلى السماء، المذنبون، الأشقياء، الروحانيون، صفوف ممن لم تُمحَ أميتهم، لكنهم عالمون بلغة وإنشاد التهامي الصوفية، الرحالة، المجاذيب، المتمردون، الدولة ورجالها، المثقفون، المتوجسون خيفة، من تطاردهم أشباح السحر، ومن لا يفيض قلبهم بالحب أبداً حاضرين بمشاعرهم متذوقة الجمال على الدوام وفي المطلق طالما تنبض قلوبهم بإحساس ينثره التهامي داخل قلوبهم بصوته العَلي..
خلف التهامي صَفٌ متناغمٌ من رجال الآلات الموسيقية التي تَخدم نبرات التهامي الحساسة جداً، يقود التهامي هذه الأوركسترا بحرفية شديدة عن طريق حركات يديه وهو ينشد، وعيناه مغمضتان هائمتان تماماً.
بحركة من يده يشدو صاحب الكمان الاحترافي بنغمٍ يُعظّم الجمال في القلوب وكان أحد من أهم ما لفت نظري في رجال التهامي هو صاحب الكمان خلفه، إنه لا يشعر بإحساس الشيخ ياسين فقط، بل يُحلّق مع الشيخ بعيداً بلا حدود، لا يُرتب للجمال ولا يعزفه نمطياً مع التَّعود، بل ينزعه انتزاعاً من القصيدة في هيئة موسيقى يسربها إلى الشيخ التهامي كي يسبح في الملكوت فوق خَط موسيقي من كمان مُهترئ في ساحة شعبية، لكن يَنظم جمالاً رَوحانياً يغرق فيه آلاف من الرُوّاد هائمين محبين ومنتشين بهذه التركيبة جداً..
لغة الشيخ ياسين التهامي الشعرية العربية الصحيحة لم تَكن مجرد تجربة عابرة بل مؤثرة ويمكن لأي متابع أن يرى انعكاس هذه اللغة على الآلاف من حاضري حفلات الشيخ ياسين التهامي، وكيف ارتقت هذه اللغة الصوفية إحساساً بلغة وكلمات ملايين من المواطنين الذين يُرددون في حياتهم الطبيعية كلمات مرتبة سلسة الإحساس واللغة جداً تنعكس في الكثير من حديث الحياة اليومية في القرى وغيرها من الطبقات، بداية من رد السلام، في الدعاء، في الحديث الهَين بين العائلات وغير ذلك من شواهد.
في النهاية، وليس مع حَضرة الشيخ ياسين التهامي براح إلا أن الضرورة الكتابية تقتضي ذِكر الخُلاصة، وصعب هنا أن نُسطّر ملخصاً وافياً، لكن الشيخ ياسين التهامي هو مصر الخالصة، مصر السواد الأعظم، الشعب بسجيّته الخام، الناس بلا رتوش، الناس وحب الله، الناس مع ذنوبهم وإحسانهم، الشعب ورغباته، الآلاف ورجاؤهم من الله.
كل مولد في حضور الشيخ ياسين التهامي هو مصر كاملة تتعلّق بالسماء معكوسة بنداء الناس ورجائها الكامل، كل على حدة في طريقهم إلى الله مستندين إلى صَوت ياسين التهامي وكل الرجال من حوله..
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.