عندما تصل أصول 13 صندوقاً سيادياً عربياً تنتمي إلى ثماني دول عربية، بنهاية شهر يونيو/حزيران الماضي إلى 3 تريليونات و370 مليار دولار، بينما بلغت قيمة الاستثمارات الأجنبية المباشرة الواردة لبلدان العالم العربى بالعام الماضي، من كل دول العالم بما فيها الأقطار العربية صاحبة تلك الصناديق أقل من 53 مليار دولار، أي بنسبة 1.5% من أصول تلك الصناديق السيادية، فإن هذا مؤشر واضح على اتجاه الاستثمارات العربية خارج الإقليم العربي..
أسباب عديدة لهذا الواقع المؤلم، منها رغبة الصناديق السيادية في تنويع استثماراتها من حيث القطاعات الاقتصادية والأنشطة ومجالات الاستثمار والجهات الجغرافية لتوزيع المخاطر، إلا أن هناك أسباباً رئيسية تجاه تلك الاستثمارات خارج الإقليم.
وهي أن سبع دول عربية؛ أي ثلث العدد الإجمالي للدول العربية، تعاني من أوضاع غير مستقرة تحول دون توجيه الاستثمارات إليها، وهي اليمن وسوريا وليبيا والصومال ولبنان والسودان وتونس، وعلاقات الجوار غير المستقرة مثلما يحدث بين المغرب والجزائر.
كذلك التجارب السلبية التي واجهتها تلك الاستثمارات ببعض البلدان العربية، مثلما حدث مع الاستثمارات القطرية بدول الجوار الخليجية خلال فترة المقاطعة، والإجراءات القاسية التي قامت بها السلطات المصرية مع عدد من رجال الأعمال المصريين، وهو ما تكرر منذ سنوات مع رجال أعمال سعوديين، إلى جانب عدم الاستقرار التشريعي والتنظيمي والتصنيف الائتماني غير الاستثماري للعديد من تلك الدول وضعف الشفافية والإفصاح.
تفضيل الأرباح السريعة بالبورصات
بالإضافة إلى الأسباب السياسية الدولية، ومنها ما ذكره الرئيس السوداني السابق عمر البشير، عن عرضه على الرئيس المصري حسنى مبارك مليون فدان لزراعتها قمحاً، واعتذار مبارك عن ذلك بدعوى أن هذا الأمر سيغضب الأمريكان، ويدخل في ذلك حرص أطراف دولية غربية على استمرار حالة عدم الاستقرار بالسودان، حتى لا يتفرغ لإنتاج الحبوب مستغلاً أراضيه الخصبة الشاسعة ووفرة مياهه، والنتيجة استيراد السودان لجانب كبير من احتياجاته المحلية من القمح منذ سنوات.
ولهذا تصبح مناشدة أصحاب رؤوس الأموال العربية من صناديق سيادية وصناديق استثمار وشركات وأفراد، بتوجيه جانب جيد من استثماراتهم لسد العجز الغذائي العربي، أمراً غير مضمون الاستجابة، من خلال التوسع بالمشروعات الزراعية والصناعية الغذائية، في ضوء تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية على المنطقة وارتفاع نسب التضخم، مما يهدد الاستقرار الاجتماعي حتى بالدول العربية الغنية.
في ظل نسبة اكتفاء ذاتي عربية تصل 31% للذرة الشامية و35% للشعير، و37% للقمح والدقيق و45% للسكر المكرر و46% للأرز، و51% للزيوت والشحوم و60% للبقوليات و76% للحوم و83% للبيض.
أذكر أنني حضرت مؤتمراً صحفياً بالقاهرة لأحد مديري أحد صناديق الاستثمار الخليجية من أصول لبنانية، الذي استعرض خلاله استثمارات صندوقه بالبورصة المصرية، وبعد انتهاء المؤتمر انتحيت به جانباً قائلاً له إننا كمصريين لا نحتاج منكم استثمارات بالبورصة لا تضيف شيئاً للناتج المحلي، وإنما نريد مشروعات زراعية وصناعية وخدمية، تنتج سلعاً وخدمات تفيدنا وتفيدكم وتوفر فرص عمل.
ورد الرجل بأن الاستثمار الزراعي عالي المخاطر، وأن التصنيع استثمار طويل الأجل وبه مخاطر أيضاً، وأنه مُطالب بتقليل مخاطر الاستثمارات التي يتجه إليها، وبتحقيق أرباح خلال فترة قصيرة من قبل المساهمين بالصندوق الذي يديره، وهو ما تحققه البورصة وشراء أدوات الدين الحكومي والودائع المصرفية بالدول الناشئة وبالدول مرتفعة الفائدة.
استثمارات الأجانب بالبورصات تفوق المباشرة
ولهذا نلاحظ أن استثمارات الأجانب بالبورصات العربية، وهي الاستثمارات التي لا تنتج سلعاً ولا خدمات، خلال السنوات الأخيرة كانت أعلى في قيمتها من الاستثمارات الأجنبية المباشرة الواردة للعالم العربي، والتي تتجه أكثر لإنشاء مشروعات جديدة، والأكثر إفادة للمجتمعات العربية، ففي عام 2015 كانت استثمارات الأجانب بالبورصات العربية 62 مليار دولار، والاستثمار الأجنبي المباشر الوارد من بلدان العالم للعرب أقل من 40 مليار دولار.
وفي عام 2016 كانت الاستثمارات بالبورصات 45 مليار دولار مقابل 32 مليار دولار للمباشر، وفي عام 2017 كانت 42 مليار دولار بالبورصات مقابل أقل من 32 مليار دولار، وفي عام 2018 كانت بالبورصات 47.5 مليار دولار مقابل 31 مليار دولار، وفي عام 2019 كانت 87 مليار دولار مقابل 35 مليار دولار للمباشرة، وفي عام 2020 بلغت 77 مليار دولار كاستثمارات للأجانب بالبورصات العربية، مقابل 37 مليار دولار للاستثمارات الأجنبية المباشرة الواردة للعالم العربي.
وإذا كان نصيب الأجانب من قيمة تعاملات البورصات العربية قد انخفضت قيمته ما بين عام 2020 وما قبله، وكذلك تراجعت نسبته إلى مجمل تعاملات البورصات من 25% في عام 2019، إلى 11% في عام 2020 عام ذروة فيروس كورونا، وتداعياته السلبية على الاستثمار سواء بالبورصات أو غيرها.
فقد ظلت نسبة تعاملات الأجانب من إجمالي التعاملات مرتفعة ببعض البورصات العربية خلال عام ذروة كورونا، لتصل إلى 48.6% ببورصة دبي، و43% ببورصة أبوظبي و37% بالبورصة القطرية، و33% ببورصة مسقط و27% ببورصة الكويت.
والمعروف أن استثمارات الأجانب في الأسهم ببورصات الأوراق المالية، تمثل أحد جوانب "استثمار الحافظة" أي الاستثمار الأجنبي غير المباشر، حيث يُضاف إلى الاستثمار بالأسهم الاستثمار بالسندات وأوراق الدين الحكومية، ونظراً لعدم إصدار صندوق النقد العربي أية بيانات عن حجم استثمار الأجانب بالحافظة بالعالم العربي، فقد أوضحت بيانات صندوق النقد الدولي حول استثمارات الحافظة التي قامت بها دول العالم بالدول الأخرى.
167 ملياراً استثمارات حافظة من 5 دول
إن أرصدة استثمارات الحافظة للولايات المتحدة الأمريكية حتى نهاية يونيو/حزيران 2021، بتسع دول عربية بلغت 71 مليار دولار، كان معظمها بالإمارات تليها قطر ثم مصر وسلطنة عمان والمغرب، كما وصلت أرصدة استثمارات الحافظة لإنجلترا بالدول العربية بنفس التوقيت، 34.8 مليار دولار كان معظمها بمصر تليها الإمارات والسعودية وقطر.
وبلغت أرصدة استثمارات الحافظة لأيرلندا بالدول العربية حينذاك حوالي 28 مليار دولار معظمها بالإمارات والسعودية، ولألمانيا بالدول العربية حوالي 20 مليار دولار كان معظمها بالإمارات والسعودية وقطر ومصر، كما وصلت أرصدة استثمارات الحافظة لسويسرا بالدول العربية بنفس التوقيت، لحوالي 14 مليار دولار معظمها في الإمارات والسعودية.
لتصل أرصدة استثمارات الحافظة للدول الخمس بمنتصف العام الماضي بالدول العربية 167 مليار دولار، بخلاف حوالي 12 مليار من كل من هولندا واليابان، وحوالي 7 مليارات دولار من فرنسا وحوالي 6 مليارات دولار من إيطاليا وحوالي 5 مليارات دولار من كوريا الجنوبية.
بينما بلغت قيمة الاستثمار الأجنبي المباشر الوارد من كل بلدان العالم، للوطن العربي بالعام الماضي- وهي الاستثمارات الأكثر إفادة للإنتاج والتشغيل- أقل من 53 مليار دولار، مع الأخذ في الاعتبار أن مكونات الاستثمار الأجنبي المباشر تتضمن المشروعات التأسيسية الجديدة، وهي الأهم لعالمنا العربى وللدول النامية عموماً، وكذلك الأرباح غير الموزعة وشراء العقارات وشراء أسهم شركات بالبورصات بنسبة 10% أو أكثر.
وكانت منظمة "الأونكتاد" تنشر أرقام المشروعات التأسيسية بدول العالم، بحيث يساعدنا ذلك في تحديد نسبة تلك المشروعات المنتجة من مجمل الاستثمار الأجنبي المباشر الواصل إلى دولنا العربية، إلا أن "الأونكتاد" توقفت عن نشر بيانات المشروعات التأسيسية خلال السنوات الأخيرة، واكتفت بالبيانات الإجمالية للاستثمار الأجنبي المباشر متعدد النوعيات.
وإذا كان نصيب العرب جميعاً من الاستثمار الأجنبي المباشر قد بلغ 53 مليار دولار بالعام الماضي، فإن تلك القيمة تعد أقل مما وصل إلى كندا وحدها والذي بلغ 60 مليار دولار، لتصبح صاحبة المركز الخامس عالمياً في استقبال الاستثمارات المباشرة، بل أقل مما وصل إلى هونغ كونغ صاحبة المركز الثالث عالمياً والبالغ عدد سكانها 7.5 مليون نسمة، وأقل مما وصل إلى سنغافورة صاحبة المركز الرابع عالمياً والبالغ عدد سكانها أقل من 6 ملايين نسمة.
ويجب الأخذ في الاعتبار أن غالب استثمارات الحافظة تعد أموالاً ساخنة تخرج سريعاً مع أي أزمة، وهو ما حدث مع رفع الفائدة الأمريكية والحرب الروسية الأوكرانية، وكذلك مع حدوث أي تطور محلي سلبي ببلد ذلك الاستثمار، مما يعني أن البيانات السابقة قد تغيرت حالياً بشكل تام.
ففي نهاية عام 2016 كانت قيمة استثمارات الحافظة لألمانيا في لبنان 8.2 مليار دولار، بينما انخفضت أرصدة تلك الاستثمارات الألمانية للحافظة بلبنان بمنتصف العام الماضي إلى 72 مليون دولار فقط وهو ما أكده وزير المالية المصري بقوله إن أكثر من 90% من استثمارات الحافظة بمصر، والتي كانت قد فاقت قيمتها 34 مليار دولار في سبتمبر/أيلول الماضي، خرجت بعد الحرب الروسية الأوكرانية، مما تسبب في زيادة الاقتراض الخارجىي والاضطرار إلى خفض سعر الجنيه المصري أمام العملات الدولية، وعودة السوق السوداء للدولار، وتحقيق ميزان المدفوعات المصري خلال الربع الأول من العام الحالي أكبر عجز فصلي له خلال العشرين عاماً الماضية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.