وأنت تتجول في شوارع تونس هذه الأيام، تعترضك لافتات تدعو المواطنين للمشاركة في الاستفتاء على دستور قيس سعيد الجديد والمصادقة عليه بنعم، المشهد نفسه يتكرر في شاشات المحطات التلفزيونية والبرامج الإذاعية، ولم تتخلف مؤسسة من مؤسسات الدولة من رئاسة الجمهورية إلى مؤسسات أخرى جهوية ومحلية عن الانخراط في هذه الحملة.
سنة 2002، عرفت البلاد استفتاءً وحملة مشابهة حينما قرر زين العابدين بن علي تعديل دستور البلاد بغاية كسر حاجز السن وإنهاء شرط الحد من ولايات حكم الرئيس حتى يتمكن من الترشح لولاية أخرى، حينها انخرط الإعلام ومؤسسات الدولة أيضاً في حملة الاستفتاء خوفاً من غضب الحاكم بأمره، وحتى النشيد الوطني تم تغيير كلماته من قبل القائمين على الحملة حتى يتلاءم مع الشعارات الداعية للمصادقة بنعم على التعديلات.
المعارضة كانت وقتها بين السجون والمنافي والحصار إلا أن ذلك لم يمنعها من الدعوة إلى مقاطعة الاستفتاء واعتباره باطلاً واعتبار نتائجه مزورة بالضرورة.
اليوم وبعد أكثر من عشرين سنة عن استفتاء بن علي وعشر سنوات من ثورة يناير يتجدد المشهد تقريباً، بين حاكم يريد فرض دستور على المقاس باعتماد آلية الاستفتاء ومعارضة لم تجد لها من سبيل غير دعوة التونسيين إلى عدم المشاركة فيه ومقاطعته.
قيس سعيد والهروب إلى الأمام
منذ انقلابه الدستوري في 25 يوليو/ تموز 2021، ورغم الأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعرفها تونس، لم يحدث أن تراجع سعيد خطوة إلى الوراء، رغم كثرة وتنوع الأصوات المنادية بذلك في الداخل والخارج.
تعيش تونس اليوم أزمة اقتصادية حادة، زادت الحرب في أوكرانيا وتبعاتها من وطأتها على الشعب وقدرته الشرائية، حيث يشهد الدينار التونسي تراجعاً تاريخيّاً أمام الدولار. أيضاً لم يتوقف الحراك السياسي المعارض لإجراءات الرئيس التعسفية في حق معارضيه من سياسيين وقضاة ومنظمات وطنية وغيرهم، وتزامن ذلك مع تتالي بيانات الاستنكار من هيئات ومنظمات دولية.
في ظل هذا المناخ المتوتر كان الأجدر برئيس الجمهورية أن يستمع إلى المنادين بضرورة إنجاز حوار جامع يخرج البلاد من أزماتها ويحمي الدولة من السقوط إلا أن ما حصل هو العكس تماماً، حيث لم يعبأ بالانتقادات التي وجهها خصومه وكذلك أصدقاؤه، لمشروع الدستور الذي فصّلَه بنفسه، على مقاس حاكم يريد جمع كل السلطات بين يديه وترسيخ مشروعه الشخصي (مشروع البناء الديمقراطي القاعدي) لينشر نص الدستور الجديد ويدعو الناخبين إلى المشاركة في الاستفتاء والتصويت على الدستور بنعم.
وبنفس الطريقة التي سبقت الاستشارة الوطنية الإلكترونية التي أجراها في مارس/آذار الماضي (2022) والتي أعلن نجاحها رغم أن نسبة المشاركة فيها لم تتجاوز 5 بالمئة من مجموع الناخبين اتهم سعيد أطرافاً لم يُسمّها باختراق الموقع الإلكتروني الخاص بالاستفتاء للتشويش على عملية التسجيل فيه، ولمح إلى أن المعارضة التي أعلنت مقاطعة الاستفتاء هي من تقف وراء الاختراق بعد أن اتهمها بأنها تهاب سيادة الشعب وتهاب تعبيره عن رأيه بحرية.
ويفهم من هذه الإشارة وإلحاقها باتهامات وتهديدات أن سعيد يستبق من خلالها ضعف المشاركة المتوقعة في الاستفتاء، وأنه سيرد ذلك إلى العراقيل والمؤامرات ليعلن أيضاً نجاح الاستفتاء رغم ضعف المشاركة فيه ومقاطعته من قبل شريحة واسعة من التونسيين.
وتزداد الشكوك حول استعداد سعيد لإعلان نجاح الاستفتاء حتى في حالة مقاطعته وضعف المشاركة فيه من خلال التمعن في المرسوم الرئاسي الصادر في 1 يونيو/حزيران 2022 المتعلق بتنقيح قانون الانتخابات والاستفتاء والذي غاب فيه تحديد نسبة دنيا لتحديد شرعية نتائج الاستفتاء من عدمها.
المعارضة.. لا خيار سوى المقاطعة
بعد ثلاث سنوات من انتخابه رئيساً للبلاد، وسنة تقريباً من الانقلاب، صارت المعارضة التونسية قادرة على فهم ذهنية سعيد وأسلوبه في إدارة الحكم، فكان واضحاً لها منذ البداية أنه ماضٍ -بكل الأساليب الممكنة- في تكريس دستور على المقاس، وتشكلت على هذا الأساس، منذ الثاني من يونيو/حزيران 2022، جبهة وطنية لإسقاط الاستفتاء، ضمت أحزاب الجمهوري والتيار الديمقراطي والعمال والقطب الحداثي بالإضافة إلى التكتل من أجل العمل والحريات، وصدر عنها بيان قالت فيه إن "مقاطعة الاستفتاء مهمة وطنية"، معتبرة أن رئيس الجمهورية قيس سعيد وبعد إلغاء دستور 2014 والاستيلاء على كافة السلطات والحكم عبر المراسيم غير القابلة للطعن وكذلك تغيير تركيبة هيئة الانتخابات يريد إضفاء شرعية زائفة على خيارات جاهزة.
ولم تُخْفِ جبهة الخلاص التي تضم حركة النهضة وأطرافاً أخرى، منها مبادرة مواطنون ضد الانقلاب، بدورها، تخوفَها من تزوير نتائج الاستفتاء، وأعادوا ذلك إلى أسباب عديدة منها الإشراف عليه من قبل هيئة مطعون في استقلاليتها ولا تضمن شفافية نتائج الاستفتاء، حسب تصريحاتهم.
أمام هذه المخاوف، خاصة المتعلقة منها بإمكانية التزوير، اختارت أطراف المعارضة مقاطعة الاستفتاء ودعوة عموم التونسيين إلى عدم المشاركة فيه، إلا أن هذا الخيار لاقى رفضاً من قبل أطراف أخرى تعارض سعيد بدورها، لكنها ترى في المشاركة والتصويت خياراً ممكناً.
هل التصويت بـ"لا" خيار ممكن؟
تحتج القوى الداعية للمشاركة في الاستفتاء والتصويت بـ"لا" بوجود مجتمع مدني قوي بإمكانه التصدي لمحاولات التزوير، إن وجدت، وتفضل المشاركة وتحشيد الشعب للتصويت ضد دستور سعيد على المقاطعة.
وترى هذه الأطراف أن قيس سعيد وعموم التونسيين لا يولون اهتماماً كبيراً لنسب المشاركة، وتستدل على ذلك بما يحصل في الانتخابات البلدية الجزئية التي تحصل بين الفترة والأخرى في البلاد والتي تعد المشاركة فيها ضئيلة جداً ولا تتجاوز في بعض الأحيان 10 بالمئة من الناخبين، أيضاً المشاركة في الاستشارة الإلكترونية التي لا يترك سعيد فرصة دون التأكيد على نجاحه رغم أن عدد المشاركين فيه لم يتجاوز 500 ألف تونسي من مجموع ثمانية ملايين معنيين بالمشاركة.
قيس سعيد بين الشعبوية والشعبية
ويبدو من خلال عمليات سبر الآراء التي تمت في الأشهر الأخيرة أن نسبة الثقة في قيس سعيد في تراجع ملحوظ، وهو ما شجع الأطراف الداعية للتصويت بـ"لا" على التشبث بموقفها والأمل في إسقاط الدستور الجديد عبر الصندوق، أو دفع سعيد إلى التراجع عنه في حال يقينه بإمكانية عدم مروره في الاستفتاء.
ورغم ما يبدو من اختلاف بين معارضي قيس سعيد حول أسلوب التعاطي مع الاستفتاء المقرر في 25 يوليو/تموز بين مقاطع ومشارك بالتصويت بلا، فإنها تجتمع في اعتبار ما يقوم به خطراً على الدولة التونسية ومؤذناً بتفكك المجتمع، كما يعتبر جلها أنه لا حل مع الانقلاب سوى مقاومته حتى يسقط.
يبدو أيضاً أن قيس سعيد، الذي طلب من التونسيين أن يقولوا نعم حتى لا يصيب الدولة الهرم وتتحقق أهداف الثورة، حسب قوله، ومهما كانت نتيجة الاستفتاء، ماضٍ في اعتماد دستوره الجديد.
والواضح أيضاً أن مؤسسات الدولة في ظل عدم قدرة المعارضة على إيقافه في اللحظة الحالية وانحياز المؤسسات الصلبة له وتذبذب موقف الاتحاد العام التونسي للشغل، ستكون مضطرة إلى التعامل بالدستور الجديد. لكن يبقى عمر دستور سعيد، ونظراً لرفضه من قبل فئة واسعة من النخب السياسية في البلاد، مرتبطاً بمدى قدرته على الاستقرار في الحكم، والأرجح ألّا يكون ذلك لفترة طويلة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.