خطاب يُؤزم الأوضاع أكثر.. كيف يقوم البرهان بتفخيخ المشهد السياسي السوداني؟

عربي بوست
تم النشر: 2022/07/06 الساعة 08:45 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/07/06 الساعة 09:17 بتوقيت غرينتش
القائد العام للجيش السوداني، عبد الفتاح البرهان/ رويترز

"بعد تشكيل الحكومة التنفيذية سيتم حل مجلس السيادة وتشكيل مجلس أعلى للقوات المسلحة من القوات المسلحة والدعم السريع" جزء من فقرة القرار رقم اثنين ضمن خطاب رئيس مجلس السيادة الفريق عبد الفتاح البرهان، الذي قدمه مباشرة للمواطنين السودانيين في ظهور يمكن القول إنه مفاجئ نوعاً ما، خاصة أنه التزم الصمت تماماً منذ فترة ليست بالقصيرة، اكتفى خلالها بإرسال رسائله المباشرة والمبطنة في تجمعات شبه رسمية، وهو ما ظل يقوم به منذ انقلابه في الخامس والعشرين من شهر أكتوبر من العام السابق 2021.

والآن بعد أكثر من ثمانية أشهر كان فيه المد الجماهيري الثوري متواصلاً بصورة شبه يومية، قابلها عنف وقمع شديدين من الحكومة نفسها، أتى البرهان أخيراً ليقول للجميع إن المؤسسة العسكرية لا تريد الحُكم، وإن مهامها فقط في تأمين البلاد والعباد من المخاطر الخارجية، وهو ما أظهره مناقضاً نفسه بنفسه، بعد استيلائه على الحكم المدني الذي كان هو رأس الرمح فيها بقوة السلاح، بإيعاز من أحزاب وحركات مسلحة وقوى إقليمية ودولية.

فهل فعلاً الجيش لا يريد الحكم؟ ولماذا هذا الخطاب الآن وبعد سقوط أكثر من 100 شهيد ومئات الجرحى، وتعطيل شبه كامل لعمل الدولة، لنعود ونسأل مجدداً، لماذا الآن؟

السودانيون تعلموا الدرس جيداً

منذ انقلابه في الخامس والعشرين من عام 2021 على الحكومة الانتقالية، وتسميته "بالحركة التصحيحية" فطن السودانيون، وبالتحديد الشباب، جيداً إلى أن الجنرال السوداني العتيد يريد، بل ويرغب بشدة في تطبيق نموذج حاكم مصر الحالي بحذافيره، لذلك كان المد الثوري على أشده، لم يترك له الفرصة لالتقاط أنفاسه بتاتاً وتمرير أجندته التي تفضي للانتخابات وهو ما يريده، وبعد حراك متواصل وجد الجنرال أن الأمر شبه مستحيل، وأن صعوده لحكم السودان، أو أي شخص آخر، يضمن له خروجاً آمناً ليس بالأمر اليسير، وما زاد الأمر تعقيداً أن المد الثوري أو "لجان المقاومة" لم تتنازل عن شعاراتها ومطالبها أبداً، وأصبحت هي المحرك الأساسي للأحداث، متجاوزة حتى الأحزاب، سواء المتعاطفة أو المعارضة للانقلاب. إذاً ماذا يريد البرهان من خطابه الأخير؟

  • أولاً: إرسال رسائل للمجتمع الدولي أن الاحتقان السياسي الذي تشهد البلاد حالياً لا دخل للجيش به، بل هو شأن مدني بحت بين الأحزاب التي تتصارع فيما بينها.
  • ثانياً: رسائل للأحزاب المؤيدة أو الرافضة لانقلاب 25 أكتوبر مفادها "هذه بضاعتكم رُدت إليكم" تريدون حكماً مدنياً إذا كونوا حكومتكم والجيش سيكون بعيداً عنكم.
  • ثالثاً: رسائل للشعب السوداني مفادها أن الجيش السوداني جيش وطني لا دخل له فيما يحصل.

ولكن وسط هذه الرسائل المباشرة وغير المباشرة أغفل الرجل متعمداً أن الجيش لا زال يسيطر على المشهد السياسي، وسيسطر مستقبلاً حتى في حالة تشكيل حكومة مدنية من خلال "المجلس الأعلى للقوات المسلحة" المشار إليها في افتتاحية هذا المقال، وفي الوقت ذاته زج متعمداً بقوات الدعم السريع في هذا المجلس، وهو ما يتناقض تناقضاً صارخاً مع مطالب الثورة التي تؤكد على ضرورة هيكلة هذه الميليشيا ودمجها في القوات المسلحة ليكون هناك جيش واحد قومي فقط في البلاد.

وبالحديث عن الدعم السريع، يبدو أن الأمور بين قائده الجنرال حميدتي والبرهان ليست على ما يرام حالياً، فالأول غادر الخرطوم مبكراً قبل الثلاثين من يونيو الماضي إلى غرب السودان، وما زال معتكفاً حتى الآن في مدينة الجنينة، وإن ظهر سريعاً في تخريج الدفعة الأولى من قوات حركات الكفاح المسلح ضمن بند الترتيبات الأمنية التي أقرتها اتفاقية جوبا، والتي غاب عنها الجنرال البرهان نفسه، ولكن لماذا هذا الاعتكاف؟ وما سر احتضان قائد الدعم السريع لقادة الحركات المسلحة؟ سنعود لهذا الأمر لاحقاً.

الطوفان قد يقتلع الجميع بلا فرز

حالة التشاكس والتنافر بين الأحزاب المؤيدة لانقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر، أو ما يُطلق عليهم محلياً "جماعة القصر"، وبين ما تبقى من أحزاب قوى الحرية والتغيير الرافضة للانقلاب كان هو المشهد الذي يراه السودانيين يومياً منذ الانقلاب، وحتى اجتماعهم تحت مظلة الآلية الثلاثية كان منفرداً ولم يظهروا على أرضية مشتركة حتى الآن.

حالة التنافر هذه هي مربط فرس الجنرال البرهان، بعيداً عن المد الثوري والشباب، فإن الجنرال البرهان يراهن بشدة في اشتداد الخلاف بين الأحزاب المؤيدة والرافضة مع بعضها البعض ليظهر بمظهر البطل الأوحد، وأن حالة الاحتقان السياسي ليست منه، بل من الأحزاب التي تبحث عن كعكتها في الحكم، وحتى الآن – وقت كتابة هذا المقال – لم تظهر رؤية مشتركة أو رسمية، سواء من هذا أو ذاك، ليبين موقفه من خطاب الجنرال البرهان، ويبدو الأمر جلياً أن كل واحد ينتظر الآخر ليرى كيف يُفكر وماذا يزعم، لينطلق من هذه النقطة، سواء كان مؤيداً أو رافضاً، وإن كانت احتمالية الرفض ستكون هو السِّمة الغالبة.. لماذا؟

لأن ما ذكره الجنرال برهان في خطابه أنه لم ينسحب تماماً من المشهد السياسي، بل ينتظر بفارغ الصبر تأزم الأوضاع بين الأحزاب المعارضة والمؤيدة ليقلب الطاولة عليهم جميعاً بلا فرز، أو اتفاقهم على رؤية مشتركة لتكوين هياكل الحكم لينطلق بعضها في التحكم في الحكومة بطريقة أو أخرى من خلال "المجلس الأعلى للقوات المسلحة"، الذي يُعتبر حصان طروادة الذي يراهن عليه الجنرال في إعادة الأمور إليه مرة أخرى، طال الزمن أن قصر.

أين الحركات المسلحة؟ وما موقفها من هذا الوضع؟

إذا افترضنا جدلاً أن هناك حكومة تم تشكيلها، فإن ضحاياها هم الحركات المسلحة التي تبدو الآن في موقف ضعف واضح، وعرفت تماماً أن الجنرال البرهان لا مشكلة لديه في التضحية بهم وباتفاق جوبا الذي أتى بهم، في سبيل أن تستقر له الأمور ليحكم مباشرة أو من خلف الكواليس، أو حتى في حالة ضمان مخرج آمن له، يضمن ألا يُحاسَب على ما ارتكبه من مجازر ابتداءً من مجزرة اعتصام القيادة العامة، مروراً بمن سقطوا نتيجة لانقلابه في الخامس والعشرين من أكتوبر، وانتهاءً بمن سقطوا في مليونية الثلاثين من شهر يونيو الماضي. 

ومع غياب الحاضنة الاجتماعية أو الشعبية لم يجد هؤلاء القادة سوى الاحتماء بقائد ميليشيا الجنجويد، وهذا ما رأيناه من مشاهدات على الأرض في الحميمة والآلفة الواضحة بينهم في تحركاتهم الآن في غرب السودان، حيث وضح الأمر جلياً أن البرهان بخطابه وإبعاد المؤسسة العسكرية عن المشهد السياسي يريد بوضوح التضحية بهم ووضعهم في فوهة المدفع ليواجهوا المد الثوري وحدهم، وهو ما سيكلفهم غالياً، وقد يجعل أمر استمرارهم في هياكل الحكم مستقبلاً أياً كان شكله مستحيلاً. 

وبنظرية أخرى هم لا يمانعون في التضحية بمكتسباتهم التي جنوها بعد توقيعهم اتفاقية جوبا، وهم الذين كانوا في يوم من الأيام يهددون بالحرب وإشعال العاصمة إذا تم المس بهذه الاتفاقية، ولكنهم لم ينبسوا ببنت شفة عندما أشار قائد الجيش إلى احتمالية إلغاء هذه الاتفاقية، والذي بموجبه يخرجهم من مجلس السيادة وأي هيكل حكم آخر هم موجودون فيه. وهذا ينبئ بأن هناك اتفاقية أو تفاهماً تحت الطاولة مع قائد الجيش يضمن لهم من خلالها استمرارهم في الحكم، من واقع كما ذكرنا سابقاً أن قائد الجيش لم يذكر صراحة خروجه من العملية السياسية، بل يضع مسمار جحا في حائط أي حكومة يتم تشكيلها مستقبلاً.  

وبالعودة مرة أخرى لقوات الدعم السريع، فإن دمجه في القوات المسلحة الوطنية يبدو أمراً مستبعداً يتحاشى الكل الحديث عنه -–باستثناء المد الثوري ولجان المقاومة – حتى قادة الحركات المسلحة التي كانت من أهم مطالبها قبل اتفاق جوبا، وما ظلوا يرددونه إعلامياً هو نزع سلاح هذه الميليشيات ودمجها رفقة قواتهم في جيش وطني واحد، ولكن بعد دخولهم العاصمة أصبحوا يتحاشون مرغمين أو راغبين في عدم الحديث عن هذا البند بالتحديد، نسبة لاختلاف موازين القوى الواضح بينهم وبين قوات الدعم السريع، لذا نجدهم كقادة أكثر ميلاً لقائد الجنجويد، الذي يبدو أكثر ضماناً لتحقيق رغباتهم من قائد الجيش.   

ماذا بعد خطاب البرهان؟

دحرج الجنرال البرهان كرته للجميع بلا فرز أحزاب مؤيدة ومعارضة وحركات مسلحة وميليشيات دعم سريع، ومد ثوري شبابي، وقوى إقليمية، ومنظمات أممية، وشعب يتطلع بشدة لدوران عجلة الدولة مرة أخرى بعد جمود يقارب العامين، ولكن حتى الآن يبدو الكُل متوجساً ولم يكشف عن أوراقه سوى الشارع الثوري الذي يبدو رافضاً تماماً لأي وجود عسكري في الحكم، بل المطلب الواضح الذي يتفق عليه جميع لجان المقاومة هو حكم مدني خالص يعمل على ترتيب الأوراق التي قام الجيش ببعثرتها بعد انقلابهم في أكتوبر الماضي.

وبالمشاهدات على الأرض لا توجد حتى الآن أي رد فعل رسمية من أي جهة، سواء أحزاب الحرية والتغيير بقسميه، المؤيد والمعارض، أو الحركات المسلحة، أو قائد الدعم السريع وحتى الجهات الإقليمية والدولية والأممية على خطاب قائد الجيش باستثناء لجان المقاومة، حيث تريد هذه الجهات رؤية موقف الأطراف الأخرى والبناء عليه، لأن خطاب قائد الجيش يبدو "مفخخاً" بكل ما تحمله الكلمة من معنى يحتمل الكثير من التأويلات والتحليلات والنظريات، ومن ثم الظهور بمظهر المؤيد يجلب لصاحبه غضب من يريدون إخراج الجيش من المعادلة، والظهور بمظهر الرافض يجلب له اتهام تعقيده للمشهد السياسي، وأنه لا يبحث عن حل.  

أما عن الجنرال البرهان وخطابه، فإنه يبدو أمام طريقين، لا ثالث لهما، البحث عن ضمان مخرج آمن له، أو الحكم من خلف الكواليس أو حتى بصورة مباشرة إذا ذهب السودانيون للانتخابات كما يروج له كثيراً.

حيث يبدو الرجل مكبلاً تماماً بمد ثوري لا يهدأ، يُطالب برأسه لتقديمه لمحاكمات على ما ارتكبه من مجارز ومن معه من المنظومة العسكرية التي حكمت البلاد بعد الإطاحة بالنظام السابق، وبين توازنات إقليمية ودولية لا تريد للجيش الخروج من المشهد السياسي، لما يمكن أن يشكل من خطر لها، يعيد مرة أخرى للواجهة ثورات الربيع العربي، ولكن هذه المرة ستكون أعنف وأشد تأثيراً، وقد تُشكل تهديداً وجودياً للأنظمة الحاكمة اليوم في البلاد العربية.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

هزاع جار النبي
كاتب سوداني
كاتب سوداني
تحميل المزيد