من دون شك تبقى الهوية والثقافة الركيزتين الأساسيتين لبقاء أي أمة تريد الاستمرار والتطور، في عالم تهيمن عليه العولمة وتتنافس الثقافات واللغات، وحتى الحضارات.
فالعالم إلى جانب هذا التفاعل والصراع الثقافي والحضاري يشهد صراعات أخرى داخل الدول، صراعات من أجل التنمية والصحة والتعليم والحرية… وغيرها.
هذه الصراعات لم تستثنِ العالم العربي، أو نقول إنها كانت واقعاً معاشاً داخله.
لذلك يبدأ الفرد العربي بالتفكير والهرب من الواقع المستجد الذي أفرزته ظروف سياسية أو اجتماعية أو ثقافية، جعلت الفرد يهرب من تلك الأزمات والصراعات المتعددة، وهنا يبحث الشخص عن عالم آخر يمكن أن يختلف عن عالمه في العادات والمعتقدات الثقافية، من أجل أن يعيش حياة تحقق له ما كان يصبو إليه في وطنه الأم، لكن مع الحسرة والأسف لم يرَ ما كان يعتقده وهو في نعومة أظفاره، وهو واقع آخر غير معاش سيهرب منه إلى حياة ثانية، وتفاصيل وخطوات يومية مغايرة لما كان فيه، وهذا التحول فُرض عليه، أو كان يراه حلماً.
أولاً: الفرد العربي والاصطدام مع واقع الغربة
هنا الإنسان المغترب (العربي) سيصطدم مع ثقافات أخرى وعادات وتقاليد متنوعة، وهنا يُطرح السؤال: هل ينصهر الإنسان العربي مع واقعه الجديد، أو يندمج مع ثقافة هذه الشعوب وحياتهم اليومية، من دون أن يفقد تراثه ومعتقداته ومدركاته الجامعة، التي هي الأصل والمنبع لكل إنسان يرى أن التطور والحداثة لا يمكنهما أن يحميا تلك العادات وهذه الثقافة، ونجد هنا أن (تايلر) قد عرف ثقافةَ الشعوب بأنّها مجموعُ العادات والتقاليد والمبادئ والمعارف والقوانين والفنون التي يكتسبها الفرد في مجتمعه.
هذا التعريف يؤكد أن الإنسان ابن بيئته، رغم تغيّر المحيط والمجتمع والثقافة، لكن الأصل لا يتقادم أو يُفصل كالترحال السياسي داخل الأحزاب.
وهذا لا يمنع أن مع كلّ أزمةٍ سياسيّةٍ أو حراك في الداخل العربيّ، أو مشروعِ هجرةٍ إلى الخارج، يُبادر العرب إلى طرح السؤال عن هويّتهم وثقافتهم، هل يمكن أن تستمر في ذواتهم ومع أبنائهم وأحفادهم، وهم خارج بلادهم وأوطانهم، أم أن الانصهار والذوبان داخل مناطق اللجوء، وهو الظاهرة الأبرز داخل العنصر العربي.
لا يمكن الحكم على حالات قد تخلت عن ثقافتها وعاداتها وهي في أول أيامها بالغربة واللجوء لدواعٍ متعددة ومختلفة، إما اللجوء السياسي أو المنفى أو التعليم أو العمل… إلخ.
لكن التعميم في هذه الحالات العربية المغتربة لا يمكن إثباته مع رؤية شريحة كبيرة من العرب لا تزال تحافظ على ثقافتها وعاداتها وتقاليدها العربية، رغم سنوات من اللجوء أو المنفى أو الغربة. لذلك لم ينصهر، بل اندمج داخل مجتمعه الجديد وهو يحمل خصال ثقافته وعاداته، ويفتخر بها، وحتى يقدمها للآخر بأحسن ثورة ممكنة ثقافياً أو علمياً أو حضارياً.
يطرح السؤال: لماذا يتخلى بعض العرب عن ثقافتهم وعاداتهم وهويتهم العربية عندما يذهبون إلى اللجوء أو الغربة. وإذا كانت هناك حالات وظروف تدفع الشخص لأن يهرب عن وطنه الأم وهو لا يريد ذلك، لكن ما ذنب العادات والتقاليد والثقافة في ذلك؟ يحيلنا هذا السؤال عن كيفيّة تفاعل المُهاجِر مع المجتمعات المتعدّدة الثقافات، والعواملِ التي قد تحُول دون إحساسه بانتمائه إلى ثقافته الأمّ. وهذا التساؤل وغيره أصبح مقلقاً في ظلّ ضياع الهويّة الذي يعاني منه بعضُ المهاجرين العرب.
ثانياً: المغترب العربي وخيار الانصهار أو الاندماج
بين الاندماج والانصهار يعيش هؤلاء حالة صراع تتمحور حول الهويّة واللغة والثقافة والوطن الأمّ والوطن البديل. ويترافق هذا مع تعديل الغرب (أرض اللجوء) في السنوات الأخيرة لسياساته الخاصّة بإدارة التعدّدية الثقافية واللغوية، ليفرضَ ثقافةَ مجتمعه ولغتَه على الأقليات المهاجرة.
وهذه السياسات إذا كانت أحد العوامل التي تؤثر على اندماج العرب داخل مجتمعاتهم الجديدة، وتدفعهم إلى تقليد الانصهار لتخطي القوانين المعمول بها داخل هذه الدول، لكن في المقابل تبقى العادات والثقافة محورين أساسيين في كيفية تعامل الفرد العربي مع مصطلح الاندماج والانصهار، فيجب أن يتعلم العربي المغترب أو في اللجوء التمييز بين "الاندماج والانصهار"؛ لكي لا يفقد ثقافته وعاداته ولغته وهويته.
فالاندماج هو الحالة المُثلى في هذه الحالة، لكي يتفاعل الفرد مع المجتمع البديل بشكلٍ إيجابيّ، بمعنى التعرّف إلى مكوّناته الاجتماعيّة، والتكيّف معها، وتقديرها، إضافة إلى المحافظة على ثقافته ولغته. والاندماج يؤدي حتماً إلى ثنائية لغوية إيجابية، وإلى الانفتاح على الثقافات الأخرى واكتسابها، كما يُسهم في التفاعل الإيجابي مع العولمة الاقتصادية والعلمية والفكرية، بما يفيد المجتمع البديل والمجتمع الأم معاً. ويترافق الاندماج مع حالة من التوازن والتقبل الذاتي، إذ لا اندماج من دون حصانة ثقافية ولغوية تدفع المرءَ إلى الاعتزاز بموروثه الثقافي واللغوي.
على النقيض من ذلك، يعني الانصهار انسلاخ الفرد عن ثقافته ولغته الأمّ، واكتسابه المكونات الاجتماعية والثقافية واللغوية الخاصة بالمجتمع البديل. وهو ينجم عن تشوش الفرد في تقدير هويته الذاتية والوطنية والقومية ومجمل موروثه الحضاري واللغوي.
خاتمة:
إن الثقافة والهوية والعادات والمدركات الجامعة لكل أمة تنتقل من جيل إلى آخر، والخشية هي أن يرث الجيل الجديد من العرب عن الطبقة النخبوية فشلَها وتبعيتَها لكل أشكال الاستعمار، وأن يرث شعاراتها الزائفة حول الثقافة والهوية والدولة الوطنية. والخشية أيضاً أن يصبح هذا الجيل غريباً داخل وطنه الأمّ، كما هو غريب خارجه.
لذلك، تبقى النواة الأولى لحفظ العادات والتقاليد والهُوية العربية داخل المجتمعات الأخرى هي تلقين هذه المدركات للفرد منذ نعومة أظفاره، بطريقة تجعله يتكيّف مع كل مجتمع بقواعد وتعريفات الاندماج، وأن يبتعد عن خطوات الانصهار والذوبان.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.