أظن أن التنوع الظاهر في كل ركن من أركان الولايات الخمسين في أرض الخلافة الفيدرالية لا مثيل له في مكان آخر، وهو تنوع قلما يتحدث ويفتخر بنفسه مثلما يحدث في الاحتفالات الكرنفالية بعيد الاستقلال يوم الرابع من يوليو/تموز كل عام.
"أمريكا أرض من لا أرض له".. هكذا يُقال في أماكن كثيرة في الولايات المتحدة الأمريكية، وغالباً من قِبَل من لم يجدوا في بلادهم رزقاً يكفيهم ويكفي من يعولون أو ممن لم تُقَدِّر أوطانهم مواهبهم أو ممن شردتهم الحروب أو الثورات فألقت بهم -مجبورين لا مختارين- للعالم "الجديد الجميل" كما يوحي عنوان رواية ألدوس هكسلي.
عيد الاستقلال الأمريكي
يحتفل الأمريكيون بعيد الاستقلال يوم ٤ يوليو/تموز، وهو الاستقلال الذي بدأ بإعلان ١٣ ولاية انفصالها عن السيادة البريطانية يوم ٢ يوليو عام ١٧٧٦، إلا أن بيان الاستقلال لم يصدر إلا يوم ٤ يوليو، وبتوقيع توماس جيفرسون (كاتب البيان الرئيسي) وجون آدامز، وهما من شغلا منصب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية فيما بعد. انضمت بعد هذا التاريخ الولاية تلو الولاية حتى اكتمل عدد الولايات خمسين بانضمام ولاية هاواي في عام 1959 لتشكل النجمة الخمسين والأخيرة في علم الولايات المتحدة كما نعرفه الآن.
كيف يحتفل الأمريكيون بعيد الاستقلال؟
ساقني القدر أمس إلى مكان الاحتفال بعيد الاستقلال لهذا العام ضمن زمرة من طلاب وأساتذة جامعة جورج ماسون، وظننت أنني سأشاهد حفلاً رسمياً كئيباً لحدث سياسي بامتياز، لكن ما وجدته كان كرنفالاً واحتفالاً شعبياً عظيماً.
وصلت إلى مكان الاحتفال فوجدت عدداً مهولاً من الأسر افترشت الأرض، رجالاً ونساءً، من الطاعنين في السن حتى الأطفال دون الثالثة، الكل في انتظار الحفل الذي بدأ باستعراض لطائرات قديمة ربما حُفِظَت في المتاحف منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. انضم للحفل بعد ذلك رجالات الأحزاب السياسية وممثلو الكونغرس في عربات مكشوفة أبانت عن ثراء فاحش واستغلال الاحتفال في الدعاية لأحزابهم والتلويح بشعاراتها مع شيفونية بارزة.
بدأت الموسيقى المتنوعة في الدخول للمشهد من خلال فرق موسيقية محلية تباينت في لونها الموسيقي؛ لكنها توحدت في إصرارها على نشر البهجة بين جموع الحاضرين، الذين اصطفوا على الأرصفة وأسطح المحلات والبيوت بأعداد هائلة تُلَّوِح بأعلام الولايات المتحدة وأشرطة ملونة تبهج النفوس قبل العيون.
انطلق الاحتفال بمسيرة ضخمة لأعداد كبيرة من البشر، وكان بمقدوري الجلوس مع الجالسين لأتفرج على المسيرة التي قُدّرَ لها أن تطوف المكان، لكني فضلت السير مع السائرين، خليط هادر من ألوان متعددة تنطق بألسنة شتى وخلفيات ثقافية متباينة، لكن الجميع ممسك بعلم أمريكا التي جمعتهم باختلافاتهم تحت لوائها ولم تميز بينهم قوانينها.
وعندما تعبت بعد أكثر من ساعة في المسيرة، استرحت بجوار كبار السن، وبعضهم لا يتحدث الإنجليزية وإنما جاؤوا الحفل مع أولادهم الذين ولدوا بأمريكا، خليط آخر، ولكنه من نفس العائلة التي نزح جيلها الأول لأمريكا بينما وُلِدَ جيلها الثاني وربما الثالث بها، وهي لهم جميعاً "وطن".
مرت القوافل من صينيين يرقصون، ولاتينيين يقفزون، وهنود يجرون، واسكوتلنديين بتنورانهم الشعبية يعرضون موسيقاهم الرخيمة. تعددت الأجيال السائرة بين أطفال انضمت للكشافة أو لمدرسة رقص أو نادي دراجات أو نادي تجديف، وطلاب مدارس ثانوية رقصت بناتها على موسيقى عزفها شبابها، و"عواجيز" يتحدون الجو الحار وخشونة الأطراف ليقدموا رقصات لطيفة.
ولم يخلُ الاحتفال من مسيرات عسكرية خفيفة تمثلت في مسيرة لقدامى المحاربين، وفرق إسعاف، وفرق مطافئ، وممثلين عن سلاح الجو، وشباب وبنات لبسوا ملابس الحرب العالمية الثانية وإكسسواراتها. وكان للسيارات دور بارز في الاحتفال، ولكنها سيارات خرجت من المتاحف لتشارك فقط -ربما- في الاحتفال؛ لأن أغلبها يعود لحقبة الأربعينات من القرن العشرين.
هكذا مر الحفل لطيفاً جامعاً لكل الاختلافات، وربما ذَكَّرَ من شارك فيه أو حضره بروح الاستقلال الذي جعل من أمريكا قوة عظمى بنيت على أكتاف المهاجرين والمُهَجَّرين. وتمنيت وأنا أحضر الحفل أن نحتفل بحرب ٦ أكتوبر بطريقة مماثلة بدلاً من الاحتفال بها بالطريقة المملة التي اعتدناها، مما جعل كثيراً من شبابنا لا يعلمون شيئاً عن ٦ أكتوبر غير الحي الشهير الذي يحمل الاسم ذاته.. فهل نفعل؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.