منذ 100 عام، ينطوي الواقع في لبنان على مشاهد متناقضة وغير مترابطة ولا متراصة، وهذا التناقض يترجم حالياً بصورتين؛ الأولى زيارة رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية ومواقفه عن توحيد الساحات في محور الممانعة، فيما الصورة الثانية تترجم باستضافة لبنان لاجتماع وزراء الخارجية والذي تغيب عنه دول رئيسية ومقاطعة وزراء خارجية السعودية والإمارات ومصر واعتذار وزير خارجية العراق؛ ما يعطي لبنان صوراً يحرص أغلب اللبنانيين على تجنبها، فيما يصر حزب الله على إضفاء لبنان بقوة السياسة الإيرانية.
تندرج زيارة هنية لبيروت تحت إطار مساعي الحركة للاستفادة من الظروف الإقليمية الجارية والالتصاق بمحور إيران بشكل أكبر وخاصة أن لدى حماس تحليلات تشير إلى أن الإيرانيين سيعقدون في نهاية المطاف صفقة أو اتفاقاً مع الجانب الأمريكي بداية ومع الدول الخليجية بشكل منفصل، ما يعني وفقاً لحماس، أن الإيرانيين سيعيشون عصراً ذهبياً مقبلاً نتيجة تفرغ القوى الكبرى لملفات الأمن النفطي والطاقة والتمدد الصيني، في المقابل فإن حماس تشعر وفقاً لما يعبر عنه قادتها أن دولاً إقليمية كتركيا قد تشهد انتكاسات سياسية في الانتخابات القادمة، لذا وجب البحث عن مساحات جديدة تقضي بالعودة إلى العلاقة مع النظام في سوريا.
وهناك تسابق محموم جارٍ بين حماس وفتح على زعامة وقيادة مخيمات لبنان وكلا الطرفين يقوم بإدخال الصراعات السياسية والتحيزات الفصائلية إلى مخيمات الجنوب في ظل نقاش مفتوح عن قيام حماس بالعمل على تكوين قوة عسكرية لها في المخيمات وتجلى ذلك بالعراضات العسكرية خلال زيارات هنية إلى لبنان، وهذا الأداء يقابله مساعي الأطراف الفتحاوية المتصارعة لتعزيز قبضتها على إرث فتح بعد رحيل أبو مازن وتحديداً الأمن الوطني والمخابرات الفلسطينية، وزيارة هنية والحديث عن لقاءات مع مسؤولين سوريين قابلتها زيارة لعزام الأحمد إلى لبنان، في محاولة لتلمس آثار النشاط الحمساوي مع المسؤولين في بيروت، ما يؤشر إلى تصعيد إقليمي في ظل المساعي الجارية لتطوير علاقات لبنان مع الدول العربية وتحديداً الخليجية منها.
إعادة الحوار في الملف النووي الإيراني
بالتوازي كانت لافتة الزيارة التي أجراها وزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني لبيروت على هامش الاجتماعات المنعقدة لوزراء الخارجية العرب، وهذه الزيارة والتي تستمر ليومها الثالث تتزامن مع استضافة الدوحة للحوار الأمريكي-الإيراني، وهذا الحدث بات يشكل تطوراً بارزاً بعد توقف كل محركات التواصل حيال الملف النووي وكل ملفات الإقليم، ويحمل هذا التطور مراعاة دولية لهواجس الدول الأخرى وتحديداً الخليج وتركيا وإسرائيل والتي كانت تخشى من اتفاق على حساب مصالحها.
لذا فإن إعادة الحوار في الملف النووي الإيراني، لكن في عاصمة خليجية كالدوحة يطرح أزمات المنطقة على طاولة البحث انطلاقاً من رغبة واشنطن في إنجاز الملفات العالقة بالتوازي مع زيارة بايدن المحددة في منتصف يوليو/تموز للشرق الأوسط، ونقل حضورها لقطر يعني أن هناك رغبة في تفهم هواجس دول الخليج، لمقاربة الحساسيات والتحديات كاملة وليس اقتصارها على المفاوضات في الاتفاق النووي.
لذا بات واضحاً أن زيارة الوزير القطري لبيروت تتكامل مع جهود الدوحة لإحداث خرق في جدار الأزمات، والتي افتتحها الزائر القطري لبيروت بإعلان دعم الحكومة القطرية للجيش اللبناني بقيمة 60 مليون دولار، والحديث عن أن هذا الدعم سيشجع أطرافاً خليجية أخرى للقيام بخطوات مماثلة تهدف لدعم صمود الأجهزة الأمنية طالما أن الجميع يتفق على ضرورة الحفاظ على استقرار البلاد والمؤسسات الباقية حتى اللحظة، وتؤشر إلى اهتمام قطر بالملف اللبناني، تزامناً مع كل ملفات المنطقة المعقدة، وضرورة تحضير الأجواء الإقليمية قبيل زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى المنطقة وانعقاد القمة الأمريكية-الأمريكية وهناك حرص قطري على طرح حلول وبحثها مع ضيوف القمة على رأسها أزمات لبنان والعراق واليمن والتي باتت تشكل استنزافاً كبيراً لدول الشرق الأوسط.
وعليه تبرز طروحات وأسئلة تتحدث عن إمكانية أن تستضيف قطر لمؤتمر حوار وطني لبناني بعد استضافتها سابقاً مؤتمرات مماثلة للبنان أو دول أخرى كأفغانستان ودورها في ملفات اليمن والعراق ومحاولة وقف الصراع الفلسطيني – الفلسطيني والذي حالت دون تحقيقه الضغوط السياسية لدول أخرى، كما تبرز لمسات قطرية للذهاب نحو حل في ملف الغاز وترسيم الحدود بين دول المتوسط.
بالمقابل تهتم الأطراف الإقليمية والدولية باستثناء إيران على إنجاز سلة من المطالب، أبرزها ترسيم الحدود كمطلب أمريكي رئيسي لاستمرار الدعم ورفع الضغوط، فيما يصر الفرنسيون والقطريون على إنجاز لبنان لاتفاقه مع صندوق النقد الدولي والدخول في برامجه المالية للتعافي، والتي تعني إقرار خطط مالية سريعة وعاجلة وإقرار التدقيق الجنائي وقوانين إعادة الأموال للمودعين.
ينقل الزائر القطري عن مجمل الأطراف العربية أهمية ملف الإصلاحات ووقف النزيف والتعطيل وانتخاب رئيس جديد في الموعد المحدد بصيغ تخفف الاحتقان، ما يؤسس لمرحلة عنوانها استعادة التوازن في لبنان بعد سنوات من سيطرة فريق واحد على كل المفاصل، وهذه الحلول تكون على ارتباط وثيق بتسوية شاملة تدخل فيها الأطراف في ظل الأزمات العالمية القاسية، لذا فإن الأزمة اليمنية وتداعياتها الخليجية حضرت مع الوزير آل ثاني والذي يتابعها مع الأطراف جميعاً، وتحديداً الحزب وإيران اللذين يدعمان الجانب الحوثي، وهذا الملف يحظى بدعم خليجي واسع لقطر لإنجازه لوقف كل أشكال الحرب الحاصلة.
ميقاتي لن ينهي حياته السياسية
أما فيما يتعلق بتشكيل الحكومة فيبدو واضحاً أن معظم الأطراف الإقليمية والدولية لا تعول على تشكيل حكومة في هذا الوقت المتبقي من عمر عهد عون، فالأخير بات يقول لكل زواره إن ميقاتي وبري وجنبلاط ومعهم جعجع متفقون على دفن عهده عبر حشره بتشكيلة حكومية والتي في حال رفضها فإنه سيوضع أمام الأطراف على أنه معطل، وفي حال وافق فإن الخوف من أن يحكم ميقاتي بحكومة كاملة الصلاحيات عقب انتهاء ولايته وإقرار مشاريع تعاكس رغبات جبران باسيل.
والرجل- أي عون- يريد تحقيق ولو إنجاز واحد كإقالة رياض سلامة من حاكمية المصرف المركزي، فيما يصر جبران باسيل على الاحتفاظ بوزارة الطاقة لارتباطها بملف الترسيم الحدودي والاستخراج النفطي والذي تسعى واشنطن لحله في غضون أشهر قليلة، كذلك يريد باسيل من هذه الحكومة العتيدة قرار تعيينات في كثير من المواقع الإدارية في مختلف قطاعات الدولة، من شأنها أن تأتي بعشرات المديرين العامين المحسوبين عليه، ما يعزز وجوده ونفوذه في الدولة في ظل عهد رئيس الجمهورية المقبل، سواء كان مؤيّداً له أم معارضاً.
في المقابل لا يبدو ميقاتي جاهزاً للتسليم بهذه الشروط بشكل مطلق، وفقاً لما ينقله زواره، وذلك ربطاً باعتبارات سياسية محلية وخارجية، لا يمكنه القفز فوقها، وخاصة أن مطالب باسيل تؤسس لاختلال توازنات أفرزتها الانتخابات وكذلك الرقابة الدولية في عملية الإصلاح المطلوبة لبنانياً من المجتمع الدولي الذي يرهن تقديم أي دعم للبنان بها؛ لذا فإن ميقاتي لن ينهي حياته السياسية بأسلوبه الزئبقي المعروف، بل سيسعى للعب بعامل الوقت لتحقيق مكاسب مستقبلية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.