في شهر يوليو من كل عام تحل علينا ذكرى وفاة واحد من أفضل من أنجبت مصر والعالم العربي والإسلامي، أستاذنا المؤدب الخلوق الفيلسوف المفكر العبقري عبد الوهاب المسيري رحمة الله تغشاه.
من المؤسف أن أكتب عن المسيري، لأني أصغر وأقل من أن أكتب عن عملاق بحجم هذا الرجل، لكنها تذكرة بجبل أشم وقور.
من أكثر مؤلفات الرجل التي أُعجبت بها كان كتاب "رحلتي الفكرية: في البذور والجذور والثمار"، حيث كنت أتعجب دوماً لماذا حرص المسيري على كتابة هذه الجملة على غلاف الكتاب (سيرة غير ذاتية – غير موضوعية)، ثم أدركت ذلك لاحقاً.
فهي غير ذاتية؛ لأن الحروف لا تتمحور حول ذاته، بل ترصد تحولات لجيل كامل، إذ إن تحولاته الفكرية كانت مرهونة بجملة التحولات التي رافقت سنوات عمره، أما غير موضوعية، فهي من باب التواضع الذي اتسم به الرجل!
وحقيقة، أدعو كل الشباب الحائر القلق أن يضم إلى مكتبته هذا الكتاب الزاخر بالأفكار والتجارب، فمن خلاله يمكن للشخص أن يستعلي على المادية التي تسعى جاهدة للردم على ما تبقى فينا من إنسانية!
وُلد أستاذنا الكبير في مدينة دمنهور بمحافظة البحيرة، تخرج في كلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية جامعة الإسكندرية عام 1955م، وبعدها حصل على درجة الماجستير من جامعة كولومبيا بنيويورك، وبعدها نال درجة الدكتوراه من جامعة رتجرز بمدينة نيو برونزويك بولاية نيوجرسي في نهاية ستينيات القرن الماضي.
يعد الرجل واحداً من أبرز المفكرين العرب، وأحد أهم المثقفين القلائل الذين اشتبكوا مع واقعهم الفكري والثقافي والسياسي، فكان مجاهداً بقلمه في ميادين الفكر، ومناضلاً بروحه وجسده في ميدان السياسة، وكانت تعطيك كل تجعيدة من قسمات وجهه المملوء بالطيبة موقفاً، وبحثاً، ورسالة، ودراسة في ميدان العلم والثقافة، فلا ترى نفسك إلا واقفاً أمام نموذج للإنسان القوي بلا غرور، المتواضع في غير ضعف، ينهمر منه العلم بغزارة، وتتساقط منه الحكمة كما تتساقط أوراق الشجر في فصل الخريف!
بعد عودته من الولايات المتحدة الأمريكية عُين أستاذنا المسيري في مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، وتحديداً في وحدة الفكر الصهيوني، فلم تشغله الوظيفة عن واجبه الفكري، فاستغل المعطيات، وشرع في تأليف واحدة من أشهر وأهم الموسوعات العلمية، بل الفكرية على الإطلاق، وهي موسوعة "اليهود واليهودية والصهيونية"، والتي تقع في ثماني مجلدات كبيرة الحجم، والتي أخذت منه وقتاً تجاوز الثلاثة عقود!
تميَّز المسيري بأنه لم يكن من الذين أغلقوا عليهم أبواب بيوتهم وراحوا يقلبون في الكتب واعتماد ذلك خطاً واحداً في التأليف والتنظير، فخرجت رؤاهم منبئة عن واقعها، بل كانت أبحاثه ونظرياته الفكرية مبنية على مخالطة حقيقية مع الفكر الغربي ومن قبله الشرقي، إذ أتيح له العمل كمستشار ثقافي للوفد الدائم لجامعة الدول العربية لدى هيئة الأمم المتحدة، ومن خلال هذه المهمة اتسعت علاقاته مع الساسة والمفكرين في الشرق والغرب.
كما تميز بأنه أسس مشروعاً فكرياً، محوره الإنسان وقضايا الإنسان، حتى في أبسط الأمور، فقد اعترض على نمط تعامل الأمريكان مع الهدية، مقارنة بتعامل أهل مصر معها، حيث كان يرى أن الإنسان الغربي مخطئ حين يسارع بفتح الهدية أمام المهدي؛ لأنه بذلك حول الهدية من قيمة إنسانية إلى قيمة مادية، ومن ثم يخرجها من الإطار التراحمي الذي تكتسب فيه الهدية قيمة إنسانية إلى الإطار التبادلي الذي يبني قيمة الهدية على ثمنها!
في تجربة المسيري نموذج للإنسان السوي الباحث عن الحقيقة، غير المتعنت، وكان من أبرز نتائج ذلك أن هداه إلى حقيقة الإيمان بالله، وتطليق الشيوعية التي كانت تقربه يوماً بعد يوم من الإلحاد!
بعد رحلة بحث طويلة استغرقت أكثر من 50 عاماً أيقن الرجل أن اللَّه هو الركيزة الأساسية لكل شيء، الركيزة الأساسية للتواصل بين الناس، لضمان أن الحقيقة حقيقة، فإن نُسِي اللَّه ركيزة الكون كلها تنتهي، وبغياب الله يتحول العالم إلى مادة طبيعية صمَّاء، خاضعة لقوانين الحركة والضَّرورة التي يمكن حصْرها ودراستها والتحكمُ فيها، وإن المطلوب هو حداثة جديدة تتبنى العلم والتكنولوجيا ولا تضرب بالقيم أو بالغائية الإنسانية عرض الحائط، حداثة تحيي العقل ولا تميت القلب، تنمي وجودنا المادي ولا تنكر الأبعاد الروحية لهذا الوجود، تعيش الحاضر دون أن تنكر التراث!
أحمد الله أن سخر لنا من يكتب عن الرجل حتى لا أردد، وإن رددت فهو ترديد على استحياء لما كان يقوله الصحفي الأمريكي روبير جاكسون من أن الشرق لا يستطيع أن يحتفظ طويلاً بالكنز الذي يقع في يده.. فقد انبرى الأستاذ الدكتور علي إبراهيم النملة، وزير العمل السعودي الأسبق، والأكاديمي المعروف، وألف كتاباً يحمل عنوان "الموسوعات الفردية.. المسيري نموذجاً" ليظهر للأمة العربية والإسلامية نماذج حية في الفكر والثقافة وعلو الهمة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.