كثيراً ما نغرق في "التاريخ الصغير" الذي يعنى بالتفاصيل في إدارة الحكم، وما يجري في أروقة العمل السياسي وداخل القصور، ونتوه بين نظرات صغار السَّاسة، الذين تأتي بهم الانتخابات الخمسية، في سكرة جماعية، وتغييب للوعي العام، بسبب الآلة الإعلامية المفترسة، وبسبب القهر والفقر.
ولا نتمعن في "التاريخ الكبير" الذي يؤثر في مسار العالم، ويؤسس للمشاريع الحضارية القَرْنيَة، وهذا الذي يضطلع عليه كبار القادة والزعماء، الذين يسهمون في رسم الخرائط السياسية، وتشكيل المحاور الكبرى التي تلتقي فيها مجموعة الدول من أجل الهيمنة والدفاع المشترك.
جاءت الأحداث السياسية الأخيرة لتدفع بكثير من الدول للتفكير خارج المنظومة التقليدية، والأوزان القديمة للدول، مع بداية أفول هيمنة القطب الواحد، محور "أمريكا- إسرائيل"، وصعود نجم دول جديدة، أصبحت تشعر بأن حجمها الجديد يؤهلها للعب دور أكبر. والأمور تصل إلى ذروتها في أحداث أوكرانيا، حيث كانت خطوة اللاعودة إلى القطب الأوحد والهيمنة الأمريكية على العالم.
كل القوى الكبيرة والزعامات تتأهب لتشكيل محاور جديدة، وتقسيم النفوذ، وإيجاد مساحات الأمان في خريطة العالم الجديدة، والتي تدفع إليها الأحداث دفعاً. وهنا نشير إلى تشابه تدخل روسيا في أوكرانيا مقابل حلف "الناتو"، بتدخل أمريكا في تايوان مقابل الصين، أمام سعي الصين لقيادة آسيا مقدمة لقيادة العالم.
السؤال الكبير
والسؤال الكبير هو: ما موقع الأمة الإسلامية من المحاور الجاري تشكلها؟ وهل يمكن الحديث عن تشكيل محور خاص للأمة الإسلامية المرشد، التي تملك كل المقومات الحضارية، الثروة والتاريخ والموقع الجيوسياسي والعدد، في ظل الحديث الممجوج لـ"بهلوانات السياسة" وصغار القادة، حول أفضل المحاور التي تضمن الحياة والرفاه والأمان لحياة العائلة. أقصد هؤلاء أصحاب الأموال المستباحة والعقول المستريحة، حيث تَغْييب العمل السياسي الجاد والمجتمع المدني المؤثر، في انتظار ظهور زعامات جديدة تفرزهم الأحداث لقيادة الأمة.
إن الزعماء هم وحدهم من يغيرون مسار الأحداث، هؤلاء الذين يغرسون بذاكرتهم في جذور التاريخ، وحلمهم إعادة الأمجاد لبلدانهم. أما ذراري السياسية فلا تتجاوز ذاكرتهم فترة حكمهم، ولا يحلمون إلا بإعادة انتخابهم. هؤلاء هم "صغار الساسة" الذين يخضعون إلى التسمين السياسي، يعيشون في قصور كالأقفاص يأتيهم علفهم إلى أعشاشهم. كالببغاوات لا يصلحون إلا للترديد والتقليد والتنديد.
قال بوتين: "من لا يندم على الاتحاد السوفييتي ليس لديه قلب، لكن أي شخص يريد إعادة تشكيله ليس له عقل". وهو اليوم يخرج عن حدود العقل، ويريد أن يدرك بقلبه ما عجز عنه عقله.
وأعتقد أن عزيمة بهذا القدر، واعتزازاً بأمته إلى هذا الحد، ستدعه يدخل في هذه المناورة القرنية، ويكسر القوارب، ويفجر القلوب، ويهدد بزعزعة الاستقرار إن لم يحدث هذا التغيير، ويخرج العالم من التوازن القلق إلى التوازن المستقر بخريطة جديدة لميزان القوى في عالم متعدد الأقطاب، وتبعاً لذلك قوانين جديدة لمجلس الأمن والمنظمات العالمية. ويعاد لروسيا دورها التاريخي طبعاً.
التغيرات الكبرى
إن التغيرات الكبرى تصنعها الحروب العسكرية الشاملة، والتي تؤدي إلى اختفاء دول، وظهور قوى جديدة على السطح، والإصبع على الزر في كل بؤر التوتر في العالم. وقد تكون حرب اقتصادية مدمرة، تؤدي إلى انهيار دول كانت تعيش على الريع، ريع البترول وريع المستعمرات القديمة، وكيانات تعيش على النصب وتجارة الأسلحة والمخدرات، بإثارة الحروب وبؤر التوتر.
ربما سينكمش فيها الدور الأمريكي، بعد انسحاب بايدن من أفغانستان، وتخفيف ضغطه على الشرق الأوسط، والتباين في الرؤى مع أوروبا، ويتفرغ أكثر للتهديد الاقتصادي والجبهة الداخلية، ويضعف دورها في الدول التي تساندها في بحر الصين الجنوبي، الذي يشكل ممراً تجارياً لأكثر من 5 تريليونات من التجارة البحرية العالمية.
وينكمش الدور الفرنسي، بخروج قواتها من مالي، وتوتر علاقاته مع مستعمراته القديمة. وشعور أوروبا بالتهديد الأمني المباشر، والخوف من انتقال الرعب والهجرة إلى ضفتهم.
وستتمدد فيه قوى جديدة جيوسياسياً، مثل روسيا، للدول الناطقة بالروسية، وتركيا للدول الناطقة باللغة التركية، وتثبت إيران قدمها في دول عربية، لتكون نقاط ارتكاز، في تشكيل محاور جديدة.
وستكون هيمنة اقتصادية شاملة للصين، تحرك نزاعات حادة حول "طريق الحرير"، والمنافذ البحرية، وفي الأسواق العالمية، ونزاع حاد حول "حقوق الملكية الفكرية".
وقد أطلق الرئيس الصيني تصريحاً صادماً عام 2017، حين قال: "أنا مستعد لملء الفراغ في القيادة العالمية، الناجم عن تحول الولايات المتحدة الأمريكية للداخل أكثر من كونها قوة عالمية"، وقد مهد لهذا التصريح حين أطلقت بكين رسمياً "مبادرة الحزام والطريق"، بهدف تطوير التعاون الاقتصادي للدول الواقعة على خط "طريق الحرير" التاريخي، وأطلقت عليه اسم "طريق الحرير الرقمي"، لأنه يقوم أساساً على تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات والذي تسعى إلى تفعيله بحلول 2049.
مشروع الأمة المرشدة
إلى وقت قريب بعيد استقلال الدول الإسلامية، كان الحديث عن محور "طنجة- جاكارتا" الذي يقابل محور "موسكو- واشنطن"، والذي يمثل فيه العالم الإسلامي الجناح الثاني الذي يضم دولاً عربية وإفريقية وآسيوية مسلمة.
والآن يهوي بنا حديث صغار الساسة الذين يبحثون عن الدفء تحت الأجنحة، وهم ينتقلون من جناح إلى جناح، حتى انتهى بهم إلى "تل أبيب"، طلباً للأمان في جحر ثعبان.
لقد هيمن على العالم محور "واشنطن- موسكو" إلى أن انهار الاتحاد السوفييتي، ثم سيطر محور "واشنطن- تل أبيب" على العالم محتمياً بالناتو، والذي انتهى به الأمر إلى تفكيك الأمة العربية وتدمير قدراتها المادية والعسكرية، مقابل استعلاء للمحتل الصهيوني، تجاوز القضية الفلسطينية إلى احتلال دول عربية جديدة ومحاولة تدمير مشروع الأمة، ولم يستثن المشاريع الوطنية الصغيرة الضيقة.
إن مشروع الأمة المرشدة الذي حلم به بعض قادة التحرر والمفكرون في مؤتمر "باندونغ"، في تشكيل محور "صنجة- جاكارتا"، سرعان ما توقف بعد تشكيل جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي. وانكفاء الدول حول قضاياها الوطنية بعد التوقيف الرسمي للحروب العربية ضد الكيان الصهيوني. واستطاع الذئب أن يستفرد بهم دولة دولة، ثم بدأ قطار التسوية الذي رهن مستقبل الدول العربية في السياسة والاقتصاد والأمن.
إلا من تفلتات حضارية قام بها قادة كبار ممن قرأوا جيداً التاريخ الكبير، مثل "مهاتير محمد"، حين بنى برجي التوأم "بتروناس"، إيذاناً بوجود حضارة جديدة تحمل أفكاراً بديلة يقودها العالم الإسلامي، وقام بهذا العمل متأثراً بالفكرة "الأفرو-آسيوية" التي تحدث عنها مؤتمر باندونق وفكرة تشكيل محو "جاكارتا- طنجة" مقابل محو "واشنطن- موسكو"، والذي تحدث عنه المفكر الجزائري مالك بن نبي.
و"أردوغان" الذي استطاع أن ينهض بالأمة التركية، بعد الكبوة التاريخية وسقوط الخلافة، والذي لم يكن سببه الحقد الصليبي والمكر الصهيوني فقط، لكن كان السبب الرئيسي هو الثورة الصناعية الأوروبية التي هيمنت على العالم، وسط ضعف شديد لمركز الخلافة، وذلك حسب قراءتنا للتاريخ الكبير، وليس بسبب التفاصيل الذي يذكرها التاريخ الصغير، كالثورة العربية ضد مركز الخلافة، ورفض السلطان عبد الحميد تسليم بيع القدس، وكلها تفاصيل تجاوزها الحلم الأوروبي وهو في عنفوان قوته.
وهو اليوم يعيد جبر كسر التخلف، وينهض بالأمة التركية، ويعود إلى الامتداد التاريخي الطبيعي لتركيا كدولة مركزية وللأمة الإسلامية بشكل متلازم، بزخم روحي ومادي كبيرين.
ماليزيا ومن ورائها النمرين الإسلاميين الإندونيسي والباكستاني، وتركيا ومن ورائها الدول التركمانية، وتحالفات عربية جديدة، يمكن أن تحقق الوثبة التي تحدث عنها "مهاتير" في تصريح واضح يقول فيه: "يمكن النهوض بالحضارة الإسلامية مجدداً بالتعاون بين ماليزيا وتركيا وباكستان.. وعبر توحيد عقولنا وقدراتنا لكي نتمكن من القيام بالحضارة الإسلامية التي كانت موجودة يوماً ما…"، ورحبت باكستان بحرارة شديدة بهذا الحلف الجديد.
وسيكون هذا التحالف مغرياً وجالباً لتحالفات سياسية واقتصادية جديدة، وسيشكل المحور الطبيعي للدول العربية، وفاتحاً لمساحات جديدة في التجارة والاقتصاد مع الدول الإفريقية، ودول شرق آسيا، ويمكن أن يعيد التأسيس لمحور جديد للأمة المرشدة.
أما الدول العربية التي اختار بعضها الدوران في فلك "تل أبيب" فلن تخرج من التيه قريباً، وتبقى بين خيارين إما التغيير أو الانهيار.
جامعة الأمة
ستبقى حتماً القدس هي الجامعة للأمة، وإن العلاقات المتميزة لحركة المقاومة مع كل هذه الدول، مثل ماليزيا التي ترفض التعامل مع الكيان المحتل، وتركيا التي توفر فضاءات العمل للحركات الإسلامية الداعمة للقضية، وإيران التي تقدم الدعم العسكري للمقاومة الفلسطينية وتصرح به علناً. ومنها إلى الجزائر ومحوريتها في العالم العربي وإفريقيا، والتي تعتبر قضية فلسطين من ثوابتها، إلى دول عظمى تعترف بالحق الشرعي لمقاومة المحتل، وترفض تسمية حماس بالمنظمة الإرهابية، وتستقبل قادتها مثل روسيا.
أما الكيان المحتل فقد عوّدنا منذ خروجه من الجيتو "الأحياء الخاصة"، أن يتجه بسياسته إلى السيطرة والنفوذ وإيقاظ الحروب، وإقامة التحالفات مع القوى الصاعدة وإدارة الظهر للقوى النازلة، فقد استطاع أن يضع قضيته على رأس جدول أعمال القادة الكبار، وتحت طاولات المفاوضات، وصارت قضيته على رأس أولوياتهم، ومادتهم الانتخابية الأساسية.
أعتقد أن هذا الكيان يخطط لهذه الأحداث بعناية، وأن المساعي جارية لتحويل تحالفاته إلى القوى الصاعدة الجديدة، لكن واقعه السياسي والاجتماعي على حافة الانهيار، فهو اليوم يستنفد مادته الانتخابية الفعالة، وهي الحروب والقتل، مع تتالي الهزائم التي تحققها المقاومة، والتي أحدثت توازناً في الرعب في غياب توازن القوى.
وأعتقد أن إعلان المقاومة عن "محور القدس"، كان في غاية الدقة في الاختيار والتوقيت، والذي ارتفعت به عن لافتة "محور المقاومة"، بعيداً عن اللغة والمذهب والعرق، سيكون هو المحور الجامع والعنوان الرافع.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.