يقول الكاتب والباحث الأكاديمي عادل لطيفي: "العالم العربي، ما عدا لبنان، أقرب إلى نموذج اللائكية الفرنسية، وهذا يعني الاعتراف الدستوري بالإسلام كهوية حضارية لا كمنظومة قانونية جامدة".
العلمنة بمفهومها الواسع هي الانتقال من نطاق الكهنوت إلى الدولة، ومن سلطة الروحي إلى سلطة الزمني، والفكرة اللاهوتية تأكيد هذا، والتي تقول بفكرة السيفين في خدمة الله: السيف الروحي والسيف الزمني في جدلية الوحدة والصراع بينهما.
يقول ابن رشد في هذا السياق: "إن هناك طريقتين لإدراك الله معرفتين منفصلتين هما: الطريق اللاهوتية والطريق الفلسفية"، كما أن ابن سينا وابن رشد وابن طفيل والمعتزلة يقولون بالفصل بين العقل والوحي، ويمكن القول إن العلمنة هي تمايز بين السلطة الدينية والسلطة السياسية، وهي أيضاً موقف إيجابي من انحسار الدين في مجاله بوصفه ديننا، ويلعب الدين في هذا السياق دور الموجّه الأخلاقي للسلطة السياسية.
العلمنة في الإسلام
ومنذ صدر الإسلام والتمايز بين المجالين الديني والسياسي قائم، وهو ما أسهم في تطور الفكر والوعي السياسي خارج الديني (الوحي)، ففي عصر النبوة كان الفرق يتطور بين الاعتبارات السياسية، والاعتبارات السياسية عند الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي كان يميز بين صفتين: القائد السياسي والقائد الروحي، إذ إن اجتهادات النبي صلى الله عليه وسلم الدنيوية كلها اجتهادات من غير مصدر وحي، وتكون غير ملزمة للجمهور؛ لأنها اجتهادات بشرية مفصولة عن الوحي الإلهي.
وفي هذا الصدد يُروى عن رافع بن خديج رضي الله عنه: "قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وهم يؤبّرون النخل، فقال عليه السلام: "ما تصنعون؟" فقالوا: شيئاً كنا نصنعه في الجاهلية، فقال: "لعلكم لو لم تصنعوه لكان خيراً"، فتركوه، فنفضت النخل "يقال نفضت الشجرة حملها إذا ألقته من آفة بها"، فذُكر له ذلك، فقال: "إنما أنا بشر، إذا أخبرتكم بشيء من أمر دينكم فخذوا به، وإذا أخبرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر".
وفي رواية عن عائشة رضي الله عنها: "إذا أخبرتكم بشيء من أمر دينكم فإنما هو بوحي، وإذا أخبرتكم بشيء من أمر دنياكم فإنما أنا بشر، وأنتم أعلم بأمور دنياكم"، ورواه موسى بن طلحة عن أبيه مرفوعاً بهذا النص: "إن كان ذلك ينفعهم فليصنعوه، فإنما ظننت ظناً فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به، فإني لا أكذب على الله".
وتوجد شواهد كثيرة على فصل الديني عن السياسي في بداية نشأة الفكر السياسي الإسلامي، ومن أبرز هذه المحطات التاريخية ما كان عند الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي غالباً ما وجد نفسه مضطراً إلى التفكير سياسياً من خلال مرجعية مصلحة الكيان السياسي الوليد، وقام رضي الله عنه بتكييف النص المقدس (القرآن الكريم غير المكتوب آنذاك)، وفي بعض الأحيان يعطل النص ويقف العمل ببعض الحدود القرآنية (مثل حد السرقة).
الإسلام لم يوجد نظاماً سياسياً متكامل الأركان
وهكذا، ففي الإسلام مصدر التشريع أصالة هو الوحي الكتاب والسنة، لكنه في قضية الدولة لم يأتِ بنموذج دولة مكتملة الأركان، ولكن جاء بمبادئ عامة هي التي تلعب دور الموجه، وترك التفاصيل للاجتهاد البشري، وهذا ما جعل العقل المسلم يتحرك بحرية ومرونة، ويمكن أن نقول: إن الإسلام في القضايا الكبرى التي تهم المجال الدنيوي لم يأتِ بنماذج معينة، ولكن جاء بمبادئ عامة تؤطر ذلك المجال، وهذا ما شكَّل دائرة الفراغ، وهي الدائرة التي يتحرك فيها العقل المسلم، وهي دائرة واسعة جداً.
وفي النهاية أختم بقول الدكتور عدنان إبراهيم، في أحد لقاءاته مع الصحفي علي الظفيري، في برنامج "في العمق" على قناة الجزيرة: "الإسلام لم يوجد نظاماً سياسياً متكامل الأركان، وهذا ليس ضعفاً بالنسبة للتشريع الإسلامي، ولكنه ضعف في قضية التشريع البشري أو الاجتهاد الإنساني، فالشريعة الإسلامية تشرع للأمور الثابتة التي لا تتغير، أما في الأمور المجملة التي تخضع لتغير وتطوير وترقي، فيأتي بالمجملات والقواعد العامة".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.