كل فترة قصيرة من الزمن، تطل علينا وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي لتنقل لنا خبراً مروعاً يتعلق بجريمة أو مجموعة من الجرائم البشعة التي تشمئز منها النفس البشرية، ليس في بلاد العرب وحدها، بل في جميع أنحاء العالم حتى في الدول المتقدمة منها.. فلم ننسَ بعد مذبحة حي التضامن في دمشق سوريا، ولم ننسَ المراهق الأمريكي الذي قتل قبل شهر تقريباً 20 طفلاً في مدرسة في جنوب ولاية تكساس، وغيرها الكثير الذي لا يتسع له هذا المقال.
تقف مشدوهاً أمام ما ترى وتسمع وأنت تسأل نفسك: هل أصيب العالم بالجنون؟ وإلا لماذا سفك الدماء هذا والاستهانة بحياة البشر والنزعة الفظيعة تجاه التدمير والتخريب على هذه الشاكلة؟ ولماذا جرائم العنصرية، وجرائم الحروب، وحتى الجرائم الفردية متعددة التوجهات التي باتت تنتشر في أكثر من مكان بلا هوادة؟ يبدو أن خللاً خطيراً قد طرأ على نفسيات وعقول البشر يدفعهم لهذه السلوكيات!
وتخرج علينا تقارير من المؤسسات الحقوقية والجهات المسؤولة في دول العالم تتحدث عن نسب وأرقام تؤكد تصاعد نسبة الجريمة.. الأمر الذي يلحُّ علينا بضرورة إجراء دراسات عميقة بحيادية ومنهجية علمية للكشف عن حقيقة ما يجري ومراجعة الدراسات النفسية السابقة لأخذ العبر منها.
جريمة بشعة جداً هزت مصر والعالم العربي الإثنين 20/6/2022..
فتاة جامعية أمام جامعة المنصورة يذبحها زميلها في كلية الطب بسكين بعد نزولها من الحافلة مباشرة، ثم يبتعد عنها وقد وقعت على حافة الرصيف حين حاصره المتواجدون في المكان وأحكموا قبضتهم عليه..
المصيبة أن فيديوهات الجريمة انتشرت على السوشيال ميديا انتشار النار في الهشيم؛ ليبدأ الناس الحديث عن الجريمة وتفنيد أسبابها والإفتاء في دوافعها لعلهم يدركون حقيقة ما يجري: ما سبب حوادث القتل المتكررة هذه؟ لماذا يختار القتلة طرقاً بشعة للقتل؟ ألا يشعرون؟ ألا يخافون؟ ألا يفكرون أبعد من أنوفهم قبل ارتكاب جرائمهم؟ هل من أسباب حقيقية تكمن خلف ما يبدو أمامنا؟ منْ السبب فيما يحدث؟ هل الأوضاع الاقتصادية والسياسية التي تحيط بنا هي المسؤول الحقيقي؟ أم أنه التراخي في تنفيذ القانون؟ أتكون الأزمات التي ألمَّت بالأخلاق والدين وعمّت المجتمعات هل السبب الرئيس؟
تأويلات وتبريرات، قد يصيب بعضها وقد يخطئ أو بمعنى أدق لا أجده يضم بين جنباته الإجابة الكافية الشافية المقنعة.
علينا أن نفهم شيئاً في غاية الأهمية هنا قبل أن أمضي في تحليل ما يجري: غالباً ما يقف خلف ارتكاب جريمة ما دوافع لا يمكن حصرها في سبب واحد فقط، كالذي سمعناه في حادثة قتل هذه الفتاة: كان الشاب يريد الزواج من الفتاة ولكنها رفضته بإصرار!!
القصة أعمق وأبعد من ذلك: هي حلقات من الأسباب تتصل ببعضها وتؤدي في نهاية المطاف إلى ظهور السلوك البشع الصادم كالذي رأيناه!
ولكن، مهما كانت الظروف المحيطة بالشخص، والتي يعتقد البعض أنها الدافع وراء ارتكاب الجريمة، إلا أن هذه الدوافع المدَّعاة لن تدفع صاحبها إلى الشروع في ارتكاب جريمته ما لم يكن لديه الاستعداد الكامل والقابلية لارتكاب مثل هذا الفعل البشع، وهو ما تحدث عنه بيتينو دي توليو عالم طبائع الإجرام الإيطالي وأسماه "السلوك الإجرامي".
يرى دي توليو أن الجريمة تحدث نتيجة صراع بين العوامل الداخلية للإنسان والعوامل البيئية، فكل إنسان يحمل في داخله جوانب من الخير والميول الطيبة وإلى جانبها أيضاً يوجد داخله نوازع من الحقد والأنانية والشر، ولكن عادة ما تكون جوانب الخير وجوانب الشر متساوية تؤدي إلى نوع من التوازن بين دوافع الجريمة وموانعها.
دي توليو عزا عوامل الإجرام إلى 3 أنواع:
1- عوامل تكوينية: وتكشف عن مدى استعداد الفرد للجريمة؛ حيث يكون في تركيبته النفسية استعداد لممارسة العنف والمُضي قدماً في كافة أشكاله.
2- عوامل مساعدة: يقتصر دورها على ظهور الاستعداد وإيقاظه، مثل وجود بيئة خصبة تسمح لهذا السلوك بالظهور.
3- عوامل مفجّرة لهذا الاستعداد الداخلي تؤدي إلى ارتكاب السلوك الإجرامي في نهاية المطاف؛ مثل قضية رفض الفتاة الزواج من هذا الشاب الذي قرر قتلها ومضى ينفذ ما عزم عليه.
وهناك مثال سيكون جيداً أن نتذكره وأظنه يتجانس مع هذه العوامل التي تحدث عنها دي توليو.. إنها تجربة سجن ستانفورد التي أجراها عالم النفس الأمريكي زيمباردو برفقة باحثين آخرين من جامعة ستانفورد الأمريكية عام 1971 حيث قاموا بدراسة ما يمكن أن يحدث للشخص نتيجة وضعه في بيئة ذات ظروف خاصة (سجين مسلوب الإرادة أو سجّان بسلطات مطلقة بحسب الدراسة)، والتي أثبتت أن الظروف الموقفية تلعب دوراً مهماً في السلوك الإنساني، فالحراس تصرفوا بعنف لأنهم وضعوا في موقع قوة مطلقة، والسجناء وُضعوا في موقف فقدوا فيه القدرة على التحكم لذا لجأوا للسلبية والاكتئاب.
ولقدرة الفرد على التكيف مع البيئة التي يعيش فيها تأثير مهم في سلوكياته، فالجريمة حصيلة لعوامل داخلية فردية وظروف اجتماعية، وهو ما طرحه دي توليو بقوله: الجريمة تكون دائماً نتاج أسباب (بيولوجية اجتماعية).
ولو تأملنا في ظاهرة الجريمة في المجتمعات البشرية، سنجد أن المجرمين ولدوا مثل غيرهم أطفالاً عاديين طبيعيين، ولكن البيئة المحيطة التي نشأوا بظروفها المختلفة والعوامل الداخلية الشعورية واللاشعورية تفاعلت وامتزجت مع بعضها وأدت إلى النتيجة التي تنتهي بها الأمور!
فعلى الجهات المسؤولة في مصر أن تدرس كل الظروف المحيطة بهذه الجريمة بعيداً عما يدور من تأويلات على ألسنة العامة لاستخلاص النتائج، والاستفادة منها في منع تكرار مثل هذه الحوادث البشعة أو على الأقل التقليل منها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.