سيختلف بعض القراء مع العنوان، وسيقولون لنا إن العلمانية في صورتها الجزئية أو الشاملة لم تتحقق في بلاد العرب. ويضربون أمثلة كثيرة على ذلك، وهذا من حقهم. ولكن لنرَ الواقع الذي عاشه ويعيشه معظم العرب حالياً.
فهل حكم العرب أوطانهم منذ الحرب العالمية الأولى وظهور الدولة القومية القومية الحديثة بنظام يعتمد الإسلام مرجعيته الأساسية في الحكم بعيداً عن الشعارات وديباجات الدستور؟ وهل تم تطبيق أسس الحكم في الإسلام والشورى بأي صورة سليمة؟ أم أن الدولة القومية كانت تفرض جوهرها العلماني على أنظمة الحكم المتعاقبة؟
وهل ما فعله نميري السودان وبعض الأنظمة الأخرى كان نابعاً من إيمانهم بصلاحية الشريعة للحياة أم بسبب ضغوط شعبية من الحركات الإسلامية والشعوب؟ وهل كان ما فعلوه يصب في صالح الإسلام أم جاء بنموذج فج اعتنى بجزئية واحدة هي نظام العقوبات والحدود، وأهمل الباقي، مع أن الإسلام دين شامل والعقوبات جزء يسير من هذا النظام المتكامل؟
العلمانية والدولة العربية منذ حقبة ما بعد الاستقلال أشاحت بوجهها عن الإسلام، وحاربت القيم والتعاليم الإسلامية التي تقوم على العدل والمساواة بين أبناء الشعب، وتكافؤ الفرص والشورى الحقيقية الفعالة. ورعت أنظمة العسكر والقبيلة، العلمانية بنخبها، ووظفتها لمحاربة كل قيمة إسلامية يمكن أن تشكل خطراً على أنظمة الاستبداد، وخدعت الناس في كثير من الأحيان بتبني نسخة من الإسلام يكرّس الاستبداد والظلم والطاعة العمياء لولي الأمر.
هذه النسخة عملت على تمكينها مؤسسات دينية رسمية اُختير قادتها بعناية لتحقيق حلم العلمانية بفصل الدين عن الحياة وجعله شأناً شخصياً في أدنى حدوده. حيث تدخلت في المساجد ومؤسسات الوقف والمدارس الإسلامية، ووضعت مناهج تربوية علمانية تروج لقيم نرى ثمارها اليوم في هذا التدهور الحقيقي في الحياة العربية مادياً ومعنوياً.
لقد أتيحت للنخب العلمانية فرص كثيرة للنيل من الإسلام من خلال مراكز دراسات ومؤسسات إعلام ومدارس حكومية وخاصة وجامعات لا تعترف بالدين إلا في أضيق نطاق. ولم يعتد بالرؤية الإسلامية للحياة والكون والإنسان، ولم تكن هي المرجعية والبوصلة الرئيسية للمؤسسات الحكومية والخاصة. ولولا الحركات الإسلامية التي حوربت من أنظمة الاستعمار وأنظمة الاستبداد، لولا تلك الحركات التي اشتغلت على تأصيل الفكر وتقديم رؤى ومؤسسات على أساس المرجعية الإسلامية لرأينا واقعاً أسوأ بكثير مما نراه اليوم.
لقد اشتغلت العلمانية العربية بدهاء كبير، فعملت على إنتاج "مشايخ" ومؤسسات علمانية همها الأساسي ترهيب الناس من العمل الإسلامي، وفصلت الدين عن الدولة وعن الحياة، واستطاعت حصره في المجالات الخاصة.
وجعلت كل من يدعو إلى الشريعة وتطبيق الإسلام "خارجياً" يوظف الدين لصالح حزبه أو جماعته. ولم تتوانَ العلمانية العربية عن التحالف مع تلك المؤسسات بالترغيب الذي تمثل في مناصب ومال وجاه ناله كل من سار في ركبها، وبرر جرائمها في القتل والسجن والتعذيب والتضييق في الأرزاق والوظائف على كل من يحمل الفكرة الإسلامية كمنظومة متكاملة للحياة، والترهيب بفصل كل عالم أو شيخ يصدع بالحق من وظيفته، ومراقبة بيوت الله، حتى أصبح الذهاب إلى المسجد في دول عربية كثيرة شبهة يؤاخذ عليها فاعلها.
ولم يكن للعلمانية ونخبها إلا التحالف مع أنظمة الاستبداد العربية سبيلاً لنشر أفكارها أو أجندتها. فالنخب العلمانية تفتقر إلى الظهير الشعبي أو التنظيم الحزبي المتغلغل في النسيج الاجتماعي، ولا تستحي أن تتحالف مع النخب العسكرية الاستبدادية بدلاً من العمل الجاد على نشر أفكارها والتنافس الشريف مع القوى الاجتماعية الأخرى، وتحديداً الإسلاميين.
واليوم وبعد الضربات المتوالية للحركات الإسلامية والسعي الحثيث لشق صفها وتصفية مؤسساتها بعد أن تيقنت الدول أن الخيار الإسلامي هو خيار الشعوب، وهو ما أفرزته الانتخابات الديمقراطية النادرة في العالم العربي، في مجمعها عدا قلة لا تكاد تذكر من العلمانيين وسدنة الأنظمة العسكرية والقبلية منها، بعد كل ذلك كله نرى اليوم مخططاً منظماً تحركه مؤسسات دولية لم تخف حقيقة عدائها للدين، وعبّرت عن ذلك في تقارير وكتب وتوجيهات، ورعت الأنظمة المحلية التفاهة والتافهين، وقدمت لهم كل الدعم لإلهاء الشعوب عن قضاياها الحقيقية في حياة كريمة عزيزة.
هذه الفئات العلمانية تقتنص الفرصة لهجمة منظمة على الدساتير والمناهج والقيم بلا هوادة، بمررات يسوّقها إعلام تابع من دول همّ انقلابييها البقاء في الحكم ولو على جماجم الناس.
إن مهمة حاملي الفكرة الإسلامية اليوم عظيمة، وعليهم التفكير بطرق وأدوات ووسائل مختلفة، وأن يتقدموا لمجتمعهم بمبادرات عملية ما أمكنهم ذلك. وعدم الاستسلام كما فعلت -وللأسف الشديد- فئة منهم قبلت أن تنقلب على نفسها وفكرها ومبادئها، وسارت في طريق رسمه لها المستبدون القابضون على المال والسلطة باسم المراجعات وهي في الحقيقة تراجعات، فقدموا أسوأ الأمثلة للتراجع والانحدار من أجل مناصب ومواقع يظن أصحابها أنهم نالوها لعظمة فيهم أو تميز في علمهم، وهي في الواقع لم تكن لتأتي لولا التنازلات والتراجعات الحادة التي سيندمون عليها؛ لأنهم ببساطة ضللوا الناس وأظهروا لهم أن "الإسلاميين" طلاب مناصب، وهم في الواقع لا يمثلون إلا أنفسهم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.