تحتضن الجزائر، بداية من 25 يونيو/حزيران الجاري إلى 6 يوليو/تموز القادم، النسخة الـ19 من دورة ألعاب البحر الأبيض المتوسط، بمشاركة 26 دولة، من ثلاث قارات؛ هي أوروبا وإفريقيا وآسيا، وبدون حضور الكيان الصهيوني الذي حاول في العديد من الدورات السابقة إشراك رياضييه بمساعدة وضغط اللجنة الأولمبية الدولية، بحجة أن الألعاب المتوسطية قد أنشئت لتعزيز السلام بين بلدان ضفتي البحر، الشمالية والجنوبية.
بدأت إرهاصات إنشاء دورة ألعاب البحر الأبيض المتوسط، في مطلع القرن العشرين، لما فكر بعض أعضاء الحركة الرياضية الدولية، في زيادة انتشار ممارسة الرياضة في العالم، وذلك بإنشاء دورات إقليمية بمشاركة البلدان المتواجدة في منطقة جغرافية واحدة؛ بحيث تسمح مثل هذه الدورات في منح الفرصة للرياضيين غير القادرين على المشاركة في دورات الألعاب الأولمبية الحديثة التي انطلقت رسمياً في سنة 1896 بأثينا اليونانية.
وقد كان الفرنسي بيار دو كوبيرتان، مؤسس الألعاب الأولمبية الحديثة، من بين أبرز مؤيدي فكرة الألعاب الرياضية الإقليمية، فقام خلال مؤتمر اللجنة الأولمبية الدولية المُنعقد في سنة 1923 بروما الإيطالية، باقتراح إنشاء مسابقة رياضية بإفريقيا، خاصة بالأهالي، أي بمشاركة السكان الأصليين للقارة دون المستعمرين الأوروبيين، فتم الاتفاق، على إثر ذلك، بين اللجنة الدولية الأولمبية والقوى الاستعمارية الكبرى على تأسيس دورة الألعاب الإفريقية، تقام كل سنتين، على أن تُجرى النسخة الأولى في العام 1925 بمدينة الجزائر العاصمة، والثانية في سنة 1927 بالإسكندرية المصرية.
ولكن النسخة الأولى تم إلغاؤها بعد رفض الحاكم العام الفرنسي للجزائر الإشراف على تنظيمها، بسبب تخوفه من استغلال الحدث الرياضي لأغراض سياسية من طرف المناضلين الجزائريين، أما النسخة الثانية وبعد تأجيلها بعامين آخرين، أي إلى سنة 1929، بسبب تأخر المصريين في إنجاز الملعب الرياضي لاحتضان المنافسات، فقد تم إلغاؤها هي الأخرى، قبل أسبوعين فقط، عن موعد افتتاحها الرسمي؛ وذلك بسبب معارضة شديدة من بريطانيا وفرنسا، اللتين تراجعتا عن موقفهما الأول، المؤيد لإقامة منافسة رياضية كبيرة خاصة بالأفارقة.
فكرة مصرية تجسّدت على أرض الواقع في عام 1951
ولم يستسلم المسؤولون الرياضيون المصريون بعد فشل فكرة تنظيم دورة الألعاب الإفريقية التي اقترحها دي كوبرتين، ففكروا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية في احتضان دورة رياضية دولية كبيرة، يتم من خلالها الترويج للبلد كرائد كبير في منطقة الشرق الأوسط، في إطار التغييرات الجيوسياسية التي طرأت على العالم بعد نهاية الحرب في صيف 1945.
وكان رئيس اللجنة الأولمبية المصرية، محمد طاهر باشا، المحرك الرئيسي لمساعي بلده في احتضان دورة رياضية، دولية كبيرة، فرأى أنّ تنظيم الألعاب الإفريقية غير ممكن في ذلك الوقت، بسبب العدد الضئيل للدول المستقلة بالقارة السمراء، كما أن احتضان مسابقة عالمية كبرى، بحجم الألعاب الأولمبية يتطلب إمكانيات مادية ضخمة لم تكن تتوفر عليها مصر؛ ولذلك جاءته فكرة قام باقتراحها في العام 1948.
فقد استغل محمد طاهر باشا إجراء أولمبياد لندن في العام 1948، ليلتقي برؤساء اللجان الوطنية الأولمبية للدول الواقعة على ضفاف البحر الأبيض المتوسط، ليقترح عليهم فكرة إنشاء دورة رياضية خاصة بالبلدان المطلة على الحوض المتوسطي، وهي الفكرة التي لاقت تجاوباً كبيراً، باستثناء بعض الدول الأوروبية على غرار فرنسا التي لم تتحمس كثيراً للمقترح.
المهم تجسدت فكرة محمد طاهر باشا على أرض الواقع، وجرت أول نسخة من دورة ألعاب البحر الأبيض المتوسط بمدينة الإسكندرية المصرية، من 5 إلى 15 أكتوبر/تشرين الأول 1951، بمشاركة 743 رياضياً من 10 دول، هي: المملكة المصرية وإيطاليا وتركيا وفرنسا وإسبانيا وسوريا ولبنان واليونان ويوغسلافيا ومالطا.
وازداد عدد الدول مع توالي الدورات بالموازاة مع زيادة عدد الدول المستقلة عن الاستعمار، أو ظهور بلدان جديدة مُنبثقة عن صراعات وحروب أهلية ( مثلما حدث مع الدول التي كانت تشكل يوغسلافيا سابقاً)، والتي كانت تنضم سريعاً للجنة الدولية الأولمبية بقصد كسب شرعية دولية سياسية.
وتبقى فلسطين التي اعترفت بها اللجنة الأولمبية الدولية في العام 1996، والكيان الصهيوني الذي انضم للجنة الدولية في سنة 1952، الوحيدين من حوض المتوسط اللذين لم يشاركا بعد في الألعاب المتوسطية.
الدول العربية رفضت مشاركة إسرائيل في ألعاب البحر المتوسط
وكانت اللوائح المُسيرة لألعاب البحر الأبيض المتوسط، عند بدايتها، تنص على أنّ اللجنة الوطنية المنظمة للدورة تقوم بدعوة كل الدول المعترف بها من طرف اللجنة الدولية الأولمبية للمشاركة في الألعاب، وعليه، فقد دعا منظمو دورة برشلونة الإسبانية لسنة 1955، الكيان الصهيوني لإشراك رياضييه، لكن الدول العربية رفضت الأمر بكل حزم وأجبرت إسبانيا على التراجع عن دعوتها.
وقد تكرر نفس الرفض من طرف الدول العربية، عندما رغبت إسرائيل المشاركة في دورة بيروت اللبنانية لسنة 1959، وذلك على الرغم من احتجاج الكيان لدى اللجنة الدولية الأولمبية، التي لم تشأ التدخل في النزاع، وصرح رئيسها، الأمريكي أفري بروندج:" لماذا يريد الجميع الذهاب حيث هو غير مرحب به؟".
وبقدوم الأيرلندي لورد كيلانين لرئاسة اللجنة الأولمبية الدولية، في سنة 1972، فإنّ اللجنة غيرت موقفها بشكلٍ كبيرٍ وواضح؛ حيث قررت سحب شعارها من الألعاب المتوسطية لعام 1975، بسبب رفض الجزائر منظمة الدورة، دعوة اللجنة الأولمبية الإسرائيلية للمشاركة، وهو الشعار الذي تمت إعادته بمناسبة الدورة التالية، التي جرت بمدينة سبليت (يوغوسلافيا سابقاً) في سنة 1979.
اتفاقيات أوسلو للسلام أقحمت فلسطين في الجدال
وبعد اتفاقيات أوسلو للسلام لعام 1993، "تشجعت" اللجنة الدولية لألعاب البحر الأبيض المتوسط للقيام بمحاولة إدراج كل من إسرائيل وفلسطين ضمن الدول المشكلة للجنة، ودعوتها للمشاركة في دورة باري الإيطالية لسنة 1997، ولكن تعثر مسار السلام فيما بعد، أوقف كل محاولات حضور رياضيي الكيان الصهيوني في الدورة.
وفي أكتوبر/تشرين الأول 2010، قام رئيس اللجنة الأولمبية الدولية، الألماني جاك روغ، بزيارة إلى الشرق الأوسط، لتقريب وجهات النظر بين اللجنتين الأولمبيتين الفلسطينية والإسرائيلية، ثم قامت اللجنة الدولية بعقد اجتماعين مع اللجنتين الفلسطينية والإسرائيلية بمدينة لوزان السويسرية، في يناير/كانون الثاني ومايو/أيار 2011، لتشجيع الحوار بين الطرفين.
وقد مهّدت "وساطة" جاك روغ الأمور للجنة ألعاب البحر الأبيض المتوسط لإدراج نقطة مشاركة إسرائيل وفلسطين ضمن اجتماعاتها، التي سبقت إجراء دورة الألعاب المتوسطية بمدينة مرسين التركية، في يونيو/حزيران 2013، لكن دون النجاح في قبول مشاركة الدولتين، مثلما تم رفض أيضاً مشاركتهما في دورتي تاراغونا الإسبانية في سنة 2018، ووهران الجزائرية في العام 2022.
تجدر الإشارة إلى أن فلسطين وإسرائيل يشاركان بشكل عادي في دورات الألعاب الأولمبية، وبحضور الدول العربية، وذلك بخلاف دورات ألعاب البحر الأبيض المتوسط.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.