استيقظ المصريون صبيحة الثالث عشر من شهر فبراير عام 2011 على مشاهد فريدة من نوعها، لم يروها من قبل، شباب وفتيات في عمر الزهور، كانوا منذ سويعات تنتفخ أوداجهم وهم يهتفون ويصيحون، من داخل ساحات ميدان التحرير والشوارع المحيطة به، للمطالبة برحيل النظام، وقد سارعوا من باكرٍ، لحمل أدوات التنظيف وجرادل الماء وفرشاوات الدهان، وانهمكوا في مهمة كنس الشوارع وتلوين الأرصفة وغسل الأسفلت، شباب جامعي، بعضهم حاصل على أعلى الدرجات العلمية، تولوا مهمة عمال النظافة والكناسين.
تنهمر المقاطع المصورة على مواقع التواصل، وشاشات الفضائيات، تظهر فرحة هؤلاء الشباب، وترن في الآذان كلماتهم المعبرة عن سعادتهم الغامرة بعودة بلادهم من قبضة الديكتاتور المخلوع، واستعادة مشاعرهم بالمحبة المخلصة والانتماء للبلاد.
الانتماء
يعرّف عالم النفس البارز "ماكميلان وتشافيز" في عام (1986) الإحساس بالانتماء للمجتمع "بشعور كل فرد له بأهميته لدى الآخر ولدى الجماعة، والإيمان المشترك، بأن احتياجات الأفراد يلبيها شعورهم بالالتزام بالبقاء سوياً".
بينما يرى زميله "سارسون" أن الشعور النفسي بالمجتمع هو "إدراك الفرد للتشابه بينه وبين الآخرين، والارتباط المتبادل والواعي بينهم، مع الرغبة في الحفاظ على هذا الارتباط بتقديم ما يتوقعه الآخرون، وشعور الفرد بأنه جزء من بنية أكبر يمكنه الاعتماد عليها".
يمكنه الاعتماد عليها؟! فماذا عن مشاعر المصريين اليوم تجاه وطنهم وإحساسهم بالانتماء؟!
ففي صبيحة السادس من يونيو هذا العام (2022)، وفي ذكرى أحداث الهزيمة المذلة لمصر على يد الكيان الصهيوني، التي انقضى عليها الآن خمسة عقود، استيقظ المصريون ثانية على أحاديث مكثفة ملأى بكلمات من نوعية "الانتماء" و"الإخلاص" و"حب البلد". إعلاميون غاضبون، وصياغة عجيبة للأخبار، تتحدث عن عدو مارق، فقد انتماءه للبلد، فقرر أن يلعب باسم دولة أخرى، قال عنها إنها ساعدته ودعمته على مدار سنوات.
كانت تلك هي المرة الأولى عند بعض المصريين التي يسمعون فيها باسم لاعب الإسكواش "محمد الشوربجي"، حين أعلن الاتحاد الإنجليزي للإسكواش في بيان له أن اللاعب المصري المصنف الأول في العالم سابقاً، الذي دخل التاريخ من أوسع أبوابه، حين صُنف بأنه أكثر لاعبي العالم في هذه اللعبة حصولاً على الألقاب، قد حول انتماءه ليلعب باسم إنجلترا بديلاً عن مصر.
انهالت بعدها الأخبار والتحليلات القادمة من فضائيات مصرية تسيطر عليها السلطات المصرية، متهمة اللاعب بخيانة بلده، وافتقاره للانتماء.
يعيش الشوربجي (والذي يبلغ من العمر 31 عاماً) في إنجلترا منذ أن كان عمره 15 عاماً، ويحتل حالياً المركز الثالث عالمياً، بعد أن حصد 44 بطولة للمحترفين، ويصبح في قائمة الأكثر تتويجاً بألقاب في منافسات الإسكواش للرجال على مر العصور، ومتربعاً على عرش اللعبة دون منافس لعدة سنوات.
وبالرغم من أن تلك البطولات جميعها والانتصارات المبهرة باسم مصر، وتحت العلم المصري، لم يكن يعلم المصريون عنها شيئاً قبل ذلك اليوم، الذي تحول فيه انتماءه وقرر اللعب باسم بلد آخر، البلد الذي وصفه الشوربجي في أحاديثه الصحفية بأنه أكبر من دعمه وسانده، وآمن بموهبته، ووقف بجانبه حتى في أحلك الأوقات التي ضعف فيها مستواه، وآن الأوان ليرد له الجميل ويلعب باسمه، بعد أن حمل جنسيته وعاش على أرضه وتمتع بخيره لأعوام.
لم يكن موقف الإعلام المصري والدولة التي تحولت تماماً من التجاهل الإعلامي والإهمال التام للّاعب، إلى حالة غير مسبوقة من العداء والنبذ ومحاولات الانتقام، بأكثر غرابة من تعليقات بعض المصريين على الخبر، وشعورهم بالشماتة في النظام الحاكم، وسعادتهم التي لم يخفوها بما فعله اللاعب، وغبطتهم له، وإظهار تمنيات بعضهم أن يكونوا مكانه.
الشوربجي الذي كانت مطالبه (وفق تصريحات رسمية) لا تتعدى كونها أبسط حقوق أي لاعب في العالم (الحصول على مدرب خاص وطبيب)، مع رضاه بتحمل مصروفاته الشخصية وتكاليف الانتقال، بالطبع لم يكن أسوأ حالاً من المصارع المصري "طارق عبدالسلام" الذي شارك في العديد من البطولات مع منتخب مصر وحقق عدداً من الميداليات، منها ذهبية بطولة الألعاب الإفريقية بالكونغو برازفيل، والفضية ببطولة بلغاريا الدولية، وبرونزية دورة البحر المتوسط بتركيا، وبرونزية بطولة العالم للشباب بمدينة صوفيا البلغارية.
لكن شاء القدر أن يصاب في إحدى المباريات، فكان طلبه المنطقي، أن بلده الذي فاز باسمه، وأُصيب من أجله، يتحمل عنه نفقات العلاج، وهو ما رفضه الاتحاد المصري للمصارعة، بحجة أن اللاعب "غير مؤثر" في صفوف المنتخب (برغم كل ما حققه من إنجازات).
مما دفع الشاب إلى السفر لبلغاريا من أجل العلاج على نفقته الخاصة؛ حيث عمل فيها بائعاً للشاورما، وهناك علِمَ المسؤولون البلغاريون بقصته، وهو الذي جاء إلى بلادهم من قبل بطلاً، فذهبوا إليه وساعدوه وعالجوه، وعرضوا عليه الجنسية فوافق على الفور، وخلال شهور قليلة حصد اللاعب ذهبية أوروبا للعبة المصارعة تحت وزن 75 كيلوغراماً بعد تغلبه على منافسه الروسي في مايو/آذار 2017، وما زالت مسيرة اللاعب المشرفة مستمرة في البلد الذي آمن به وبموهبته وتبنّاه.
في واحدة من الدراسات الحديثة والموسعة لشركة "لينكد إن" للتوظيف بالتعاون مع البنك الدولي، (والمنشورة بتقرير لصحيفة العربي الجديد) أظهرت النتائج الصادمة تبوأ مصر رأس قائمة الدول الأكثر طرداً للعقول المبدعة في العالم بمجال تكنولوجيا المعلومات، بالإضافة إلى هجرة المهارات المتخصصة في الشؤون الصحية، يتقدمهم الأطباء.
تقول الإحصاءات الرسمية المصرية إن هناك ما يقرب من 110 آلاف طبيب، هاجروا من مصر خلال السنوات الثلاث الماضية، ما يمثل نصف عدد الأطباء المقدرة أعدادهم بحوالي 215 ألف طبيب، وتناقصت أعداد الأطباء في مصر بشكل مخيف، حتى أصبح لدينا 10 أطباء لكل 10 آلاف مواطن، بينما يبلغ المعدل العالمي 32 طبيباً لكل 10 آلاف مواطن.
من العجيب، وما يلفت النظر ويسترعي الانتباه، أن البرمجة وخدمات تكنولوجيا المعلومات التي كانت مصر على قائمة الدولة الطاردة للمواهب والكفاءات فيها، لا تحتاج لانتقال الفني إلى مقر العمل بالأساس؛ حيث يمكن أن يعمل هؤلاء من منازلهم في مصر، والحصول على مرتبات مجزية لعملهم بالدولار، لكن يبدو أن هجرة المصريين بها تعود لرغبتهم القوية في ترك البلاد.
الرغبة الملحة في الهجرة والهروب من مصر، لم تقتصر للأسف على الناضجين والشباب، بل تجاوزتها للمراهقين والأطفال.
هذا ما كشف عنه حادث لجوء الطفل المصري، أحمد فؤاد مرعي (13 عاماً) إلى إيطاليا في عام 2016 بعد معاناته المريرة خلال محاولة الهجرة غير الشرعية عبر البحر وغرق الكثيرين ممن كانوا معه، وأوضح الطفل في حديث له، أنه لم يهاجر من مصر إلى أوروبا في قوارب يعلم أنه ربما يلقى بها الموت، إلا رغبة في العمل والحصول على أموال تمكّنه من مساعدة أخيه المريض الذي يبحث عن علاج.
ولم يكن "أحمد" سوى نقطة في بحر من المرارات والآلام، كشفت عنها إحصاءات منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف)؛ حيث أكدت أن الأشهر السبعة الأولى فقط من عام 2016 وصل عدد الأطفال المصريين غير المصحوبين بالأهل، والذين استقبلتهم سواحل إيطاليا حوالي 3500 قاصر وطفل.
يطفو بذاكرتي الآن، لقاء تليفزيوني أليم، شاهدته منذ سنوات، على قناة دريم الفضائية، تطرق لملف الهجرة غير الشرعية للمصريين إلى سواحل أوروبا عبر القوارب الصغيرة المسماة بقوارب الموت، ودافع به أحد منظمي تلك الرحلات، عن عمله، قائلاً إنه لم يقدم على هذا الأمر سوى تلبية لرغبة مُلحة من الشباب وأهاليهم في توفير فرصة لحياة كريمة، مستشهداً بقصته مع أحد هؤلاء، بعد غرق مركب يملكها بما عليها من شباب، فذهب إلى والد أحد الغرقى ومعه المال الذي أنقده إياه (15 ألف جنيه مصري) رأفة بأسرته حتى لا تُفجع في ابنها وفي الأموال، فرفض الوالد الحصول على المبلغ، طالباً منه الاحتفاظ به، في مقابل تسفير ابنه الثاني (أخو الغريق) في رحلة أخرى للهجرة خارج البلاد.
فانظر حين يصبح الحلم بحياة خارج مصر تتضاءل أمامه احتمالية الموت وشبح الأخطار!
الحكومة للمصريين: مقابركم عندنا
ويبدو أن الحكومة المصرية قد تنبهت أخيراً لذلك الطوفان العارم الذي يعتمل بصدور المصريين رغبةً في الهروب من بلادهم المنكوبة بالحكم العسكري، وما يصنعه من تردٍّ في كل مناحي الحياة، فأعلنت لأول مرة بالتاريخ وزارة الإسكان المصرية عن طرح عدد من أراضي المقابر، داخل 4 مدن جديدة، للمصريين المقيمين بالخارج، وسيكون الدفع لها بالدولار!
النظام المصري، يقول لك ببساطة:
إذا لم تستطع العيش بكرامة داخل حدود بلادك، أبشر، يمكنك أن تعود إليها، جثة هامدة، وترقد بسلام.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.