يصنع اللاعب الدولي البولندي روبرت ليفاندوفسكي الحدث في الفترة الحالية، وبات بطلاً لأبرز مسلسلات الميركاتو الصيفي الجاري؛ لإصراره على الرحيل عن فريقه بايرن ميونيخ الألماني بقصد خوض تجربة احترافية جديدة وهو على أعتاب الـ34 من عمره، وذلك على الرغم من المعارضة الشديدة للنادي البافاري المُصّر على بقاء اللاعب حتى نهاية عقده.
وما كان الجمهور الرياضي العالمي ليحضر هذا المسلسل الصيفي لو لم تكن هنالك "بطلة كبيرة" لعبت دوراً أساسياً في بلوغ النجم البولندي الشهرة التي هو عليها الآن، والتي تدخلت بشكل حاسم، قبل 16 سنة، لإعادة اللاعب إلى السكة الصحيحة.. ما هي القصة؟ ومن تكون تلك "البطلة"؟
نشأ وسط عائلة رياضية وكان بطلاً في سباقات العدو
ولد روبرت ليفاندوفسكي يوم 12 أغسطس/آب 1988 بالعاصمة البولندية فارصوفيا؛ حيث نشأ وسط عائلة رياضية، إذ كان والده "كرزيستوف" لاعباً في رياضة الجودو، كما مارس كرة القدم ضمن نادي "هينتك فارسوفيا" في دوري الدرجة الثانية، أما والدته فكانت لاعبة في رياضة كرة الطائرة بنادي "أزس فارسوفيا" بدوري الدرجة الأولى.
وكان الطفل روبرت يملك طاقة هائلة رغم نحالته وقصر قامته مقارنة بأقرانه، كما تميّز بالسرعة وقوة التحمل؛ ما سمح له بالفوز بعدة سباقات مدرسية لاختراق الضاحية، فقام مدربوه بتوجيهه لممارسة رياضة ألعاب القوى، ولكنه كان يفضل كرة القدم، مثلما أوضحت والدته إيفانا ليفاندوفسكا لصحيفة "سبورت" البولندية، في عددها ليوم 11 سبتمبر/أيلول 2008، مشيرة إلى أنّ نجلها كان يحتفظ دائماً بالكرة تحت طاولته.
وقد لعبت إيفانا دوراً كبيراً في تسيير المشوار الرياضي لروبرت ليفاندوفسكي، وكانت حاسمة في إنقاذه من الضياع مثلما سنتطرق إليه فيما بعد، وذلك بعدما نتعرف باختصار على بدايته مع ممارسة رياضة كرة القدم.
بدأ روبرت لعب كرة القدم ضمن فريق رسمي، في سنة 1997، أي لما كان يبلغ من العمر 9 أعوام، وذلك مع نادي "فارسوفيا وارسو" حتى مطلع عام 2005، حيث انضم للفريق الأول لنادي "دلتا فارسوفيا" الذي كان ينشط في دوري الدرجة الرابعة، فشارك في بعض المباريات خلال النصف الثاني من موسم (2004- 2005)، مُسجلاً فيها 4 أهداف.
وقبل انطلاق موسم 2005- 2006، تعاقد مع نادي "ليجيا صوفيا"، أحد أكبر وأقوى الأندية في بولندا، لكن بدايته كانت مع فريق الرديف في دوري الدرجة الثالثة وليس مع الفريق الأول، كما أنه فشل في الظهور بمستوى لائق، مكتفياً بتسجيل هدفين اثنين فقط؛ ما جعل إدارة النادي تستغني عن خدماته عند نهاية الموسم.
أصبح دون فريق في سن الـ18.. فتدخلت "الواسطة"
وفي صيف 2006، كان روبرت ليفاندوفسكي قد اقترب من بلوغ الـ18 عاماً من عمره ودون أي فريق، وقد كان من الممكن جداً، في مثل هذه السن، أن يضع حداً لطموحاته في أن يصبح لاعباً محترفاً، وأن يركز اهتمامه على الدراسة على غرار الكثير من الشباب الذين فشلوا مبكراً في المجال الرياضي، ولكن والدته إيفانا كان لها رأي مغاير تماماً.
فلقد رأت الأم إيفانا في ابنها روبرت قدرات فنية وبدنية هائلة، وأنه بحاجة فقط لمن يضع فيه الثقة حتى يبرزها في المستوى الأعلى.
وعليه، فقد سعت أم ليفاندوفسكي جاهدة لإيجاد فريق جديد لنجلها لينشط فيه، فاتصلت ببعض معارفها من نادي "زنيتشج بروشكوف"، الذي سبق لها أن دربت فريقه لكرة الطائرة للإناث، فكان لها ما أرادت، وتم منح الشاب روبرت فرصة جديدة لتجريب حظه مع كرة القدم، وذلك باعترافها شخصياً في تصريح لها للصحيفة الرياضية البولندية نفسها.
وبالفعل استغل ليفاندوفسكي فرصته على أفضل ما يرام، ضمن فريق كان يتشكل في معظمه من لاعبين شباب، وكان يتلقى دعماً مادياً ومعنوياً كبيرين من طرف السلطات المسيرة لمدينة بروشكوف.
فقد سجل روبرت في موسمه الأول (2006- 2007) مع زنيتشج بروشكوف 15 هدفاً، تصدر بها قائمة هدافي الفوج الأول لدوري الدرجة الثالثة البولندية، مُساهماً بها في صعود النادي إلى دوري الدرجة الثانية.
ونجح ليفاندوفسكي، بفضل ذلك التألق، في لفت انتباه بعض أندية دوري الدرجة الأولى "تودزكي كلوب سبورتوفي" الذي اقترح عليه القيام بتجارب مع فريقه الأول، لكن اللاعب الشاب رفض ذلك، مشترطاً التوقيع على العقد بشكلٍ مباشرٍ دون إخضاعه للتجربة.
بقي "ليفا" إذاً، في نادي "زنيتشج بروشكوف"، وواصل تألقه معه، مُحسّناً من فعاليته الهجومية، فتصدر قائمة هدافي دوري الدرجة الثانية برصيد 21 هدفاً، ولكنها لم تكن كافية للأسف لمنح الفريق تأشيرة الارتقاء إلى دوري الدرجة الأولى، بحيث احتل المركز الخامس في جدول الترتيب، بفارق الأهداف فقط عن صاحب المرتبة الرابعة الذي صعد إلى دوري الأضواء.
وإذا كان نادي زنيتشج بروشكوف قد فشل في الصعود إلى دوري الدرجة الأولى عند نهاية موسم (2007- 2008)؛ فإنّ العديد من لاعبي الفريق نجحوا في الظفر بعقود مع أندية من تلك الدرجة، على غرار روبرت ليفاندوفسكي الذي وقع يوم 18 يونيو/حزيران 2008 على عقد لمدة 4 سنوات مع نادي "لخ بوزنان" في صفقة استفاد فيها بروشكوف من مبلغ 1.5 مليون زلوتي، أي حوالي 350 ألف يورو.
وبعدما بدأ مشواره مع "لخ بوزنان" كلاعب احتياطي، سرعان مع فرض ليفاندوفسكي نفسه ضمن التشكيلة الأساسية بفضل الأهداف الحاسمة التي كان يسجلها كلما تم إقحامه في المباريات كلاعب بديل، سواء في لقاءات الدوري المحلي أم في مسابقة كأس الاتحاد الأوروبي لكرة القدم (التسمية القديمة للدوري الأوروبي لكرة القدم).
وسمح هذا التطور السريع في مستوى ليفاندوفسكي، وخاصة فعاليته التهديفية المميزة، في لفت أنظار مسؤولي منتخب بولندا الأول، فشارك يوم 10 سبتمبر/أيلول 2008 في مباراة رسمية أمام منتخب سان مارينو، لحساب التصفيات الأوروبية لكأس العالم لكرة القدم 2010؛ حيث سجل هدفه الأول بعد دخوله كلاعب بديل في الدقيقة الـ59 من اللقاء.
خاض ليفاندوفسكي إذاً مباراته الدولية الأولى مع منتخب بولندا بعد أيام قليلة فقط من احتفاله بعيد ميلاده العشرين، وهو الذي كان قبل نحو سنتين على وشك وضع حد لمشواره الكروي لولا تدخل أمه التي استعملت "الواسطة" لإنقاذ نجلها.. ولكنها "واسطة" في محلها، بحيث لم يخب ظنها مثلما لم يخب ظن مسؤولي نادي زنيتشج بروشكوف الذين لبوا طلب الوالدة.
المهم حقق ليفاندوفسكي بداية رائعة مع فريقه الجديد "لخ بوزنان"، فسجل في النصف الأول من موسم (2008-2009) 12 هدفاً في كل المسابقات، منها 8 أهداف في الدوري المحلي؛ ما جعل مجلة "بيكتا نونزا" البولندية، تمنحه في شهر ديسمبر/ كانون الأول 2008، جائزة "اكتشاف السنة في بولندا"، كما لاحظت عدة أندية أوروبية كبيرة قدراته التهديفية المميزة، على غرار أرسنال الإنجليزي وبوروسيا دورتموند الألماني ونابولي الإيطالي، والتي وضعته ضمن أجندتها تحسباً لضمه مستقبلاً.
وأنهى ليفاندوفسكي موسمه الأول مع "لخ بوزنان" في المركز الثالث لترتيب دوري الدرجة الأولى، وتُوّج بلقب كأس بولندا، كما احتل المرتبة الثالثة في قائمة أفضل هدافي الدوري، بمجموع 14 هدفاً.
وواصل "ليفا" تألقه في الموسم الموالي (2009- 2010) وبشكل أفضل من الأول، حيث قاد "لخ بوزنان" للتتويج بلقب الدوري البولندي لأول مرة منذ 17 سنة، كما نال جائزة أفضل هداف للدوري برصيد 18 هدفاً، ما زاد من درجة اهتمام الأندية الأجنبية الراغبة في ضمه لصفوفها، فظفر به بوروسيا دورتموند يوم 1 يوليو/تموز 2010، بعدما دفع مبلغ 4 ملايين و750 ألف يورو.
ألقاب فردية بالجملة بعد رحيله إلى ألمانيا
لن أطيل كثيراً في الحديث عن بقية المشوار الرياضي لروبرت ليفاندوفسكي؛ لأن النجم البولندي أصبح لاعباً مشهوراً منذ التحاقه بالدوري الألماني، ومن المؤكد أن الكثير منكم يعرف الألقاب التي نالها رفقة دورتموند (من 2010 إلى 2014) وبايرن ميونيخ (من 2014 إلى 2022)، واكتفي فقط بأهم الإنجازات الفردية التي حققها، على غرار جائزة "الأفضل" في سنتي 2020 و2021، التي يمنحها الاتحاد الدولي لكرة القدم لأفضل لاعب في العالم، كما جاء في المركز الثاني لجائزة الكرة الذهبية لعام 2021، التي تمنحها مجلة "فرانس فوتبول" الفرنسية.
كما نال جائزة "الحذاء الذهبي" لأحسن هداف في أوروبا في سنتين متتاليتين، 2021 و2022، حيث بات أول لاعب بولندي يحقق هذا الإنجاز القاري، كما توج بلقب هداف الدوري الألماني في 8 مرات.
قبضة ليفاندوفسكي الحديدية مع إدارة بايرن ميونيخ
انضم ليفاندوفسكي لبايرن ميونيخ في صيف 2014 في صفقة انتقال حر، بعد نهاية عقده مع بوروسيا دورتموند، وقد جدّد عقده مع النادي البافاري في سنة 2019 حتى يونيو/حزيران 2023، ما يعني أنّ اللاعب لا يزال مرتبطاً مع بطل ألمانيا لموسم آخر.
ولكن النجم البولندي يريد الرحيل بداية من الميركاتو الصيفي الجاري، وقد دخل في قبضة حديدية مع إدارة الفريق، مستغلاً العروض الكثيرة التي وصلته من أندية أوروبية كبيرة أخرى، أبرزها برشلونة الإسباني الباحث عن هداف مُحنك لتحسين فعاليته الهجومية في الموسم القادم.
وقد أكثر "ليفا" في الفترة الأخيرة من خروجه الإعلامي للضغط على إدارة البايرن لتسريحه، على غرار تصريحاته لصحيفة "بيلد" الألمانية، يوم 7 يونيو/حزيران 2022، التي قال فيها: "أعتقد أنه من الأفضل لبايرن ميونخ أن يستثمر الأموال التي يمكنه الحصول عليها، بدلاً من إبقائي حتى نهاية عقدي معهم. لا أريد فرض شيء عليهم".
وأضاف بنوع من الدبلوماسية: "أريد أن أجد أفضل حل لكلا الجانبين. بايرن ميونخ هو أحد أكبر الأندية في العالم، وهو فريق يحلم به الكثير من اللاعبين، لكنني أريد أن ينتهي هذا الأمر بيننا. نحن لسنا أعداءً، ومتأكد من أننا سنجد اتفاقاً يناسب الجميع".
وتابع: "لست أنانياً. أنا أعرف ما كان لدي في بايرن ميونخ، وأنا أقدّر ذلك كثيراً. أعرف أيضاً أنني بذلت قصارى جهدي حتى لا تخيب آمال النادي والجماهير على مدى السنوات الـ8 الماضية، التي قضيتها معهم. إذا لم أكن صريحاً بشأن وضعي، لشعرت بأنني لم أكن منصفاً مع الجماهير. أعلم أن هناك الكثير من المشاعر اليوم، لكنني آمل أن يفهمني المشجعون في مرحلة ما".
وبالمقابل، يصرّ نادي بايرن ميونيخ على بقاء هداف الفريق حتى نهاية عقده، واستعداده لتسريحه بعد ذلك دون أي مقابل مادي.. وهو الموقف الذي يتطلب هذه المرة "وساطة" لا "واسطة".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.