يوسف صايغ، أحد الشخصيات الفلسطينية، الذي مارس العمل الوطني من مواقع مختلفة، وهو كبير أسرة فلسطينية قدمت للعمل الوطني مجموعة من الرموز، منهم إضافة إلى يوسف، فايز الذي أسَّس مركز الأبحاث الفلسطيني، وأنيس الذي خلف أخاه فايز في مركز الأبحاث، وتوفيق الذي كان شاعراً، ثم يزيد بن يوسف، الباحث في بريطانيا، والذي ذاعت أخيراً دراسته عن النشاط الاقتصادي للجيش المصري.
العائلة تنتسب لأب مسيحي من السويداء، وأُم فلسطينية من قرية البصة، ذات الأغلبية المسيحية، تنقّل يوسف مع أسرته من السويداء في سوريا إلى البصة، ثم طبريا، ودرس المرحلة الثانوية في صيدا، ثم درس الاقتصاد والإدارة في الجامعة الأمريكية في بيروت، ثم عمل بعد ذلك مديراً لمنتجع سياحي، ثم مديراً لفندق في طبريا قبل انتقاله إلى القدس. وعرضه هذا يظهر أن الفلسطينيين في الثلاثينيات كانوا يتمتعون بمستوى تعليمي متقدم على نظرائهم في بلاد الشام الأخرى، كما يُظهر أن المراكز السياحية والفنادق في فلسطين آنذاك كانت تحفل بما يحفل به مثلها من أماكن في العالم من لهو بنوعيه البريء والمشبوه.
بدايات يوسف في العمل السياسي كانت من خلال عضويته في الحزب القومي السوري أيام الجامعة، لكنه دخل العمل الوطني الفلسطيني من أوسع أبوابه، حين أصبح مديراً لبيت المال العربي في فلسطين، ثم تنقّل بين مجموعة أعمال مهمة أدت إلى وقوعه أسير حرب لدى إسرائيل خلال حرب 48 ولمدة تسعة أشهر.
اختير عضواً في المجلس الوطني الفلسطيني منذ إنشائه، كما رأس بعد ذلك دائرة التخطيط في منظمة التحرير ثلاث سنوات، انتهت باستقالته سنة 1971، بعدها رأس الصندوق القومي الفلسطيني، الذي استقال منه اعتراضاً على تصرفات عرفات المالية، حيث ثبت لديه أن عرفات يحوّل أموالاً ممنوحة للصندوق الفلسطيني إلى حسابات منظمة فتح، بعد ذلك رأس الوفد الفلسطيني إلى مباحثات الأطراف المتعددة في لجنة التعاون والتنمية، وقد أصرت إسرائيل على استبعاده بحجة أنه عضو في المجلس الوطني الفلسطيني، ولكن الحقيقة كانت غير ذلك، فقد أعلن أنه لا يمكن فصل مسار التعاون عن مسار السلام، ولا يمكن بدء تعاون قبل تحقيق السلام العادل، وهو ما أزعج إسرائيل، التي كانت تريد تقديم كعكة اقتصادية للفلسطينيين كي يقدموا تنازلات سياسية.
وبعد ذلك رأس المجلس الفلسطيني للإعمار والتنمية، الذي كان اسمه بيدار، ثم اصبح اسمه بكدار، وقد استقال يوسف رغم نجاحه في الحصول من مانحي البنك الدولي على تمويل لإقامة دعائم لإنشاء اقتصاد فلسطيني، بمبلغ زاد بمليار ونصف على ما كانت تطمح إليه منظمة التحرير، لاحظ عرفات أن الآلية التي رتبها يوسف كانت تكفّ يده عن الإدارة المالية، وتضعها كلها لدى مجلس المديرين، وكلهم فلسطينيون تكنوقراط، وبما عرف عن عرفات من نزعة للتفرد بالقرار فقد تصرّف بطريقة ألغت الاتفاقيات التي أنجزها يوسف، فكانت استقالته النهائية.
مذكرات يوسف السياسية في كتابه "سيرة غير مكتملة" وثيقة إدانة لسوء أداء منظمة التحرير، كما أن مذكراته عن حرب 48 إضاءات مبهرة على أسباب النكبة، يتركك الكتاب بحسرة تكمن في أن الفلسطينيين لم يستفيدوا من الكفاءات المتفوقة لديهم، مثل يوسف الذي كانت أبحاثه في الاقتصاد مرجعيات مهمة للفترات التي تناولتها، وأولها كتابه المرجعي عن الاقتصاد الإسرائيلي الصادر سنة 1963، إضافة إلى أبحاثه الأخرى التي أنجزها خلال عمله في الجامعة الأمريكية ببيروت، وكذلك في جامعة أكسفورد.
عندما أصبح يوسف صايغ مديراً لبيت المال العربي كانت مهمته تأمين المال لتمويل الأعمال الدفاعية التي يقوم بها الفلسطينيون لحماية بلادهم من المخطط الصهيوني، وهو عمل شاق، فقد استغرق يوسف وقتاً طويلاً للوصول إلى ما يشبه قاعدة للمعلومات، يتم عن طريقها تحصيل شلن من كل فلسطيني مهما كان دخله، فرض مبالغ أعلى على ذوي المهن التي يتوقع أن يكون دخلها موفوراً، وفي أحد المواسم جُمع مبلغ 176 ألف جنيه فلسطيني، ذهب يوسف ليسلمها بنفسه للمفتي، كان المفتي يقيم آنذاك في القاهرة، ويستخدم هذه الأموال لتمويل شراء الأسلحة والعتاد للمقاتلين.
تسربت أخبار أنشطة بيت المال العربي لليهود، فبدأوا في مهاجمته في الإعلام، وحاولت قوات يهودية الاعتداء مرتين على مكتب رئيس بيت المال العربي، وحين ذكر أحد الصحفيين العرب على سبيل الفخر المبالغ التي تم جمعها، تبرعت أرملة يهودية عجوز من جنوب إفريقيا للإسرائليين بمبلغ مليون جنيه إسترليني، أحسست -يقول يوسف- عندئذ بعقم عملنا كله.
كانت المواجهة غير متكافئة بكل المقاييس، وقد لاحظت أن يوسف يتحدث بود واحترام كبيرين عن المفتي الحاج أمين الحسيني.
تمكّن يوسف من الحصول من صديقه غسان تويني، صاحب جريدة النهار، على رسالة تقول إن يوسف مراسل للجريدة، وهو ما مكّنه من وضع لافتة على سيارته من مكتب المعلومات الرسمي، كُتب عليها صحافة بالعربية والإنجليزية، وتمكن بالتالي من التنقل على خطوط المواجهة في القدس، وهكذا أُتيح له التعرف إلى القائد إبراهيم أبو دية. يتحدث يوسف بإعجاب عن هذا القائد الذي استطاع بعتاد قليل التصدي لهجمات اليهود، وإحباط تقدمهم في مرتفعات القطمون، المطلة على القدس، لفترة طويلة، وفي اللحظات الأخيرة- حيث أصبح الوضع ميئوساً منه- كان يوسف يناقش الوضع مع المجاهد أبو دية، ومع درويش المقدادي، الذي كان مدير المكتب العربي في القدس آنذاك، اقترح المقدادي أن يتوجه يوسف لإِطْلاع عبد الله بن الحسين، ملك شرق الأردن، على الوضع، وطلب المساعدة منه، وقد كان، توجَّه يوسف أولاً لمقابلة القائد الأردني عبد الله التل، الذي كان يقود فصيلاً من الجيش الأردني، أُنيطت به رسمياً مهمة حماية القنصلية الأردنية والقنصليلت العربية الأخرى، لكنه في الواقع ومِن خلف ظهر حكومته كان يُقدم مساعدات مهمة للمقاتلين الفلسطينيين، راقت الفكرة لعبد الله التل، وشرح تقديره للوضع العسكري الحرج بالتفصيل، تمت المقابلة مع الملك عبد الله الأول بن الحسين، كان واضحاً أن الملك لا يريد تقديم مساعدة لحماية القدس لأن حمايتها كانت تتم بواسطة رجال الحاج أمين الحسيني، لم يقتنع الملك بكل ما قاله يوسف، ولا بالخريطة التي رسمها ليدعم حديثه.
قال الملك: دعني أرَ إن كان قنصلنا في القدس يؤكد ما تقوله.
يقول يوسف: شعرت عندها بأن قلبي يهوي، لقد كان القنصل على علاقة مع ابنة أحد قناصل أمريكا اللاتينية، وهذه بدورها على اتصال مع الوكالة اليهودية.
طلب الملك قنصليته في القدس هاتفياً، وسمع يوسف صوت القنصل وهو يقول:
جلالة الملك، من الذي يقول لك هذه القصص عن قرب سقوط القدس في أيدي الصهاينة؟ كلام فارغ. يكمل يوسف: استدار الملك نحوي وقال طبعاً أنا أصدق ما يقوله قنصلي. ثم أردف: لن أفعل أي شيء ولن أرسل أي رجال، في غضون أيام سيحرر جيشي المظفر القدس كلها.
غنيّ عن القول إنه ما كاد يوسف يعود من عَمان إلى القدس، حتى كان اليهود يحتلون أغلب القدس، تلك التي أصبحت تعرف بالقدس الغربية.
وما زلنا بانتظار الجيش المظفر.
يتبع..
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.