ليس هناك من لا يعرف اسم سيد قطب من جمهور المثقفين، لا سيما كل باحثٍ في الشؤون الإسلامية، حتى الساحة السياسية وأصحابها لا يخفى عليهم هذا الاسم؛ إنه الذي فرض اسمه وفكره على الجميع، مؤيدين أو رافضين.
ولكن هؤلاء لا يعرفون أن بطلهم أعرض عن الاقتران بالجنس الآخر، فهل، يا ترى، لو عرفوا السبب وراء إعراضه عن الزواج سيغيرون وجهتهم؟ أو سيزيد ذلك في عمر خبرتهم؟
ربما..
أول قصة حب عرفتها الطفولة
لا عجب أن الطفولة تؤثر في شباب صاحبها، سواء كانت مريرة أم جميلة أم حتى معدومة الذكريات، وسيد لم تكن طفولته على الوجه الحسن؛ فلقد تربى في ريفٍ عرف فيه الدنو في التفكير، والعبث في الخصوصيات، وحتى القهر في اللعب، وهذا ما يعيشه كل قاطن ريف، حتى أشرقت شمس القلب فدب فيه الأمل من جديد.
فاسألوا كل من ذاق عبير الحب عن جمال الطلعة وبهاء الحياة، فعِشق القلب يريح البدن من عناء العمل، وينير العقل من ظلمة الجهل، وينسي صاحبه مر الأيام.
في سن الـ14 عرف سيد أول محبوبة، وهي من أهل قريته "موشا" في محافظة "أسيوط"، وتربطها به صلة مصاهرة بعيدة، وقد بادلته الشعور، وظهر ذلك في عينيها حين كانت تلعب مع أخته الصغرى وبرفقتهما أخريات، وعرفا أن كلاً من العاشقين يبادل الآخر عشقه، لكن هذا العشق لم يدم، فقطع جمالَ العشقِ حدةُ القدر، فانتقل سيد على إثر ذلك القدر إلى القاهرة ليكمل تعليمه في مدرسة المعلمين، وصورة المعشوق لا تفارق ذهنه، بل لا تفارق حبر قلمه؛ فقد كتب عنها فقال في كتابه طفل من القرية: "كانت خمرية اللون، ذات طابعٍ غير مكررٍ في الوجوه، لم تكن حسب مقاييس القرية جميلة، فليست بيضاء البشرة، وأنفها ليس بالقدر المطلوب، ولكنها وحدها من بين بنات المدرسة، بل من بين بنات القرية، كانت تبدو في نظره جميلة، وكان سر جمالها أنها كانت ذات طابعٍ خاص". اهـ.
مرت من الأعوام 3 ثم عاد سيد إلى قريته وإلى محبوبته، ليرى بعينيه وليعيش بوجدانه قضاء الله وقدره؛ فكان قد سبقه إليها أحد القرويين بجوارهم، وها هي حدة القدر من جديد تقطع أوردة الحب.
انتهى الأمر يا سيد؛ فلم يبقَ لك هنا عيْش، كل الحوائط تذكرك بلعبها، كل الأزقة تهمس لك باسمها، فارحل واترك هنا إلى من استحق العيش فيها.
القلب يخفق من جديد
تخرج سيد الشاب في الجامعة عام 1933م، وعمل بوزارة المعارف في مطلع الأربعينيات.
لم يتركه القدر وحيداً، بل أرسل له نسمات عشق من جديد، ولكن هذه المرة كانت الخفقة قاهرية، ولم يترك أيضاً العشق قلمه دون كلام، فكتب في روايته أشواك: "لم تكن ممن يحسبهن العرف جميلات، لكن كان هناك في وجهها جاذبية ساحرة، كانت خمرية اللون، واضحة الجبين، وفي عينيها وهج غريب؛ تطل منه إشراقة ساحرة"، فأصر أن لا يعود إلى الصفر مجدداً وقد لعب رقم الـ30 في عمره، فخطبها..
في حين كان يتجهز العروسان للخطبة كان يتجهز معهما القدر؛ فيحد شفرته ليقطع من جديد ما وصله سيد، وفي ليلة الخطبة نزحت من عين العروس دمعة، فسألها عن السبب، فأخبرته أنها كانت تعشق جارها الضابط في الجيش، وقد رحل كلٌ منهما عن الآخر، يا إلهي! جرح جديد، ولكنه أكثر وعورة من سابقه، فها هو سيد يفقد قلبه من جديد، ورأى أن الكرامة نفسها التي حتمت عليه الرحيل من قريته تحتم عليه فسخ الخطبة، وكان قرار الكرامة أقوى؛ ففعل وكتب قصته في قصيدة، وسماها الكأس المسمومة، قال فيها:
سَمَّمتِ عَيشي وأحلاَمي وأخيلَتي *** وأنت شيطانة في سمت أملاكِ
وعِشتُ أَرعاكِ في قلبِي وأنتِ بلا *** قلبٍ، يُحِسٌّ ويَرعَى كيفَ أرعَـاكِ
مَن أنتِ؟ ما أنتِ؟ إنِّي حائرٌ قَلِقٌ *** أأنتِ أُسطُورةٌ في سِفرِ أفّــاكِ؟
موعد مع السجن
بعد قصتين كافيتين لتدمير قلب سيد من ناحية النساء؛ رأى أن ينشغل في عمله الأدبي أفضل وأحفظ لما تبقى منه؛ فسافر إلى أمريكا، ثم عاد وانضم للإخوان المسلمين عام 1958م، ولكن العمر يداهم سيد، فقرر أخيراً أن يتزوج ممن تجبر له كسر قلبه، فبحث، ولكن البحث هذه المرة كان في دوائر الإسلاميات، حتى وجدها أخيراً..
ولكن أغلال عبد الناصر كانت أسبق لليدين من حلقات الخطوبة، فدخل السجن وقضى فيه سنوات عشر، بداية من عام 1954م، حتى أخرجوه عام 1964م بعفوٍ صحي وعمره حينذاك 59 سنة، ورأى أن يتزوج ممن ترمم جراحه، وتعطيه دواءه، وتقف على قبره داعية وقد قارب على الهلاك، ولما وجد من يصحبها في جعبته وتحمل اسمه؛ سبقه رجال عبد الناصر إلى سجن القاهرة من جديد، ولكن هذه المرة لم يبق في العمر متّسع.
أعدموا الجسد
في يوم من عام 1966م حكمت محكمة ناصر بالإعدام شنقاً على سيد؛ ظاناً أنه إن أعدم الجسد سينتهي الفكر، وقد أخطأ ناصر كعادته في تقدير ذلك، فانتشر الفكر وصاحبه كالزيت على وجه الماء.
فلو علمت أنثى من سيكون سيد قطب، وماذا سيترك من إرثٍ فكري وأدبي؛ هل كانت تقرر التخلي عنه؟
ربما لو كان عاش سيد قصة زواج منعماً لما وصل إلى ما وصل إليه.. ربما!
يقول سيد قطب، رحمه الله: "ليست الحياة بعدد السنين، وإنما الحياة بعدد المشاعر؛ لأن الحياة ليست شيئاً آخر غير شعور الإنسان بالحياة".
يا كل قلبٍ عانى من شروخ الحب وألم الفراق؛ لا ألومك على ما وصلت إليه، لا أنظرك تقتفي ذلك الحب مجدداً، ارفقوا بكل من ترك العشق وراء ظهره، وولى عن الزواج مدبراً؛ لأنه ما أوصله إلى تلك النقطة من الطريق إلا غدر قد ذاق ويلته في أكثر من تجربة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.